يخطأ بل يرتكب كبرى المحرّمات، من يعتقد لحظة أنّ هدف عبير موسي يكمن في إسقاط حركة النهضة «مهما يكن الثمن».
هدف عبير موسي يكمن في نقطتين :
أوّلا : تزّعم حزبها وصعودها هي شخصيا لقيادة هذه «المعركة»، بمعنى وقوف جميع «أعداء النهضة» ليس في صفّها، بل وراءها.
ثانيا : حين تعلم يقينًا، أنّ القضاء على «حركة النهضة» من المستحيلات، يصبح الغرض، الاستقواء بالعمق الذي سيقف عن قناعة أو عن اكراه وراءها، لتحقيق أفضل المكاسب عند لحظة «التوافق» مع هذا «العدوّ»، كما فعل سيّدها (في السياسة) وتأج رأسها (في المناورة) الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
نجحت عبير موسي في خدمة ذاتها، لكنّها نجحت (عن جهل أو عن دراية) في تثبيت النهضة في شكل «الطرف المقابل» (الأوحد) الذي يستحّق المحاربة، ومن ثمّة من سيكون شريك «سلام الأبطال»، لأنّ المعادلة الاقليميّة كما الإكراهات الدوليّة، لن تسمح لا لعبير موسي ولا للجهات الإقليميّة والعربيّة التي تموّلها وترعاها وتنفخ في روحها، بتجاوز حدود «اللعبة»، أيّ تقزيم حركة النهضة إلى أبعد حدّ، ثمّ الذهاب معها أو بمشاركتها نحو «توافق» يضمن استقرار البلاد وبالتالي ضمان مصالح هذه الدول، ذات النفوذ الاستراتيجي في تونس.
تعلم عبير موسي بالحدس وبالمعلومة أنّ دورها وبالتالي حلمها لا يعدو أن يكون سوى الجلوس يوما، هي أو من سيخلفها (حين لا تهمّ الأسماء) مع راشد الغنوشي (أو ربّما من سيخلفه) في باريس (أو ربّما غيره من حواضر الغرب، حين لا يهمّ المكان) لتطبيق «خارطة الطريق» المقرّرة من قبل هذه الأطراف، كما فعل «الشيخان» ذات مرّة.
بقيّة المشهد السياسي، كما يبدو بالدليل المادّي القاطع، ليس في حيرة من أمره فقط، بل عاجز عن فهم المعادلة أبعد من الاختيار بين «السيء» مقابل «الأسوأ» المطروح أمامه، وعلامة الفشل الظاهرة في أخره، أنّه سقط ولم يخرج في مستقع «التخريج» اللغوي والتبرير الأخلاقي، أو ربّما الوهم/الإيهام بصناعة أو القدرة على صناعة «خطّ ثالث»، هو في الحقيقة أشبه بثوب ذلك الملك العاري، نسمع عنه كثيرا ولم يره أحد إلى حدّ الساعة.
قوّة عبير موسي ونبوغ راشد الغنوشي، أنّهما يلعبان «سياسة الواقع»، في حين لا يزال كلّ من «زهيّر المغزاوي» [حركة الشعب] و«محمّد عبّو» [التيّار الديمقراطي]، ومن وراء كلّ منهما، ينتظرون «الشروط التاريخيّة» (المواتية) لصياغة ذلك «الخطّ الثالث» الذي هو مثل ذلك «المعيدي» التي قالت العرب عنه «تسمع عنه خيراً من أن تراه».
المسألة لا علاقة لها، لا بما هي القدرة على الخطابة والتخريج اللغوي أو طاقة الاستعراض على المنابر، بل بما هو «عمق الفكر» المكتسب بالغريزة.
عبير موسي، ترى في نفسها «وريثة بن علي» (رغم التجارة بصورة بورقيبة وتراثه)، ومن ثمّة هي تريد استرجاع «ملك» تمّت سرقته من قبل «الانقلابيين»، في حين يرى راشد الغنوشي أنّ حركته قدّمت من التضحيات وبذلت من أفرادها في سبيل الوصول إلى المرتبة الأولى التي هي فيها الكثير، ومن ثمّة يكون الدفاع، سواء عن الحقّ التاريخي أو الرصيد الحالي.
البقيّة بدون استثناء يدافعون عن فكرة أو هو «مشروع» لا يزال في مرحلة الأماني المنقوصة والتمنيات الناقصة، يحاولون الترويج لما يحلمون به من باب «البهاء» اللفظي وجمال الفكرة، دون التفكير مرّة واحدة في المرور إلى التنفيذ الفعلي والفاعل، معتقدين أنّ «الأفكار الرائعة» تجد الطريق بمفردها إلى الحكم (وهم وراءها بطبيعة الحال).
بعض هذه الفئة (الضالّة) الثالثة، يعتقد ويحلم بترك النهضة والدستوري الحرّ يتخاصمان ضمن منطق «فخّار يكسر بعضه»، ليخرج بعد ذلك لجمع المكاسب واعتلاء المناصب العليا.
لم يفعلها الباجي سابقا، كما لن تفعلها عبير موسي (أو من سيأتي بعدها) : عند بلوغ «نقطة التوازن» مع النهضة، يكون المرور إلى مفاوضات «التوافق»، لذلك يأتي كلام النائب «سالم لبيض» عن أنّ النهضة هي من أعادت «التجمعيين» إلى المشهد، رائعًا ومقبولا على مستوى التوصيف، لكن لا يمثّل تبريرًا لعجز «حركة الشعب» بمعيّة «التيّار الديمقراطي» عن «تثليث» المشهد، والحال أنّ تلاقي هذين الحزبين حول حدّ أدنى من «التوافق» كفيل بكسر محور «النهضة/الدستوري الحرّ» ومن ثمّة قلب المشهد برمّته.
يقف عائقًا أمام هذا التثليث، عجز قيادات كلّ من حركة الشعب والتيّار، عن الذهاب في «توافق» استراتيجي بينهما، ليس فقط لوجود خلافات بيّنة بينهما، مثل الموقف ممّا يجري في كلّ من ليبيا وسورية، بل (وهنا الخطورة) لعقيدة راسخة لدى الطرفين بأنّ الركض بالمفرد أنفع وأبقى، وبالتالي لا يكون التفكير في أيّ تلاق مع أيّ فصيل سياسي، سوى لحاجة أكيدة ومصلحة ذاتيّة، وليس من خلال مشروع مشترك (في الحدّ الأدنى) هما عاجزان عن استيعابه.
مثل مقابلة في رياضة الملاكمة، المعركة بين كلّ من النهضة والدستوري الحرّ، لا تزال في جولتها الأولى، وهي كذلك تمتدّ على عدد غير محدود/معروف من الجولات، لكنّ الأكيد وما لا يقبل النقاش، يكمن في توقّف المقابلة، عندما يدرك الطرفان، أنّ كلاهما بلغ أقصى قوّته، وأنّ المواصلة لحظة واحدة في الصراع، ستخدم الأطراف المتربصة، التي تحلم في عزّ الظهيرة، بأنّ تقتل (رمزيا) عبير موسي الغنّوشي، الذي كان قبل تلقّي الرصاصة، قد غرس سيفه المسموم في قلبها، لتكون نهاية الطرفين، على شاكلة أحاجي العجائز وخرافات الماضي.
مع التأكيد على أنّ لا أحاجي العجائز ولا خرافات الماضي، تملك شبرًا في حقائق الحاضر.