بعيدًا عن الشماتة المرضيّة والحقد الأعمى، وضلال من يعتبرون أنّ «تراجع (ما يُسمّى) الإسلام السياسي» يصبّ في خانتهم، يمكن الجزم أنّ محمّد القوماني أعلن في «بيان الوداع» جهرًا ما يتداوله قسم كبير من عمق النهضة بصوت خافت، بدأ في الارتفاع.
الفئة الغالبية من النهضة تعترف (في أقلّه) بوجود «عثرات تستوجب التصويب»، لكن (وهنا الإشكال) يستحيل (وفق الرأي الغالب) الانطلاق في أيّ شكل من أشكال «نقد الذات» لأنّ «نشر الغسيل» (الداخلي) على مرأى ومسمع الجميع سيمكّن الخصوم من نقاط ضعف ستعمد إليها «جبهة الأعداء» لتوجه الضربة القاضية إلى الحركة.
من ذلك رأينا خطابا (منذ 25 جويلية) يعتمد «تزكية الذات» و«تدنيس الطرف المقابل»، حين لم يتزحزح قيد أنملة، رغم بعض الكلمات العابرة، التي جعلت من «النهضة» جزءا من الأزمة ومن ثمّة تعترف للطرف المقابل (أيّ الانقلابي في نظرها) أنّه (آليّا) جزءا من «الحلّ».
هي أزمة خطاب، أو هي معضلة التوفيق بين خطابين، ويمكن أن نضيف أزمة الاستدارة من خطاب «الفضيلة/الرذيلة» إلى منطق «كلمة سواء».
من التبسيط ومن السذاجة القول أنّ (ما يسمّى) «الإسلام السياسي» وحده من يروّج بأنّه «خال من أيّ عيب»، فقط تبرز النهضة في تونس (أفضل من غيرها)، لأنّها «الكيان السياسي» الأفضل (نسبيا) على مستوى التنظيم (راهنًا)، أو بلغة أخرى «الأقل تشرذمًا» من غيرها، ومن ثمّة سواء كانت الحركة فاعلة (أيّ في الحكم) أو مفعول بها (خارج الحكم) تبقى أحد أهمّ اللاعبين ضمن مشهد مدمّر، بل هو هباءً منثورًا.
مغادرة الدكتور عبد اللطيف المكّي حركة النهضة، قرأها الخصوم «منطق التوجّس/المؤامرة» ضمن سياسة «تعدّد الواجهات» أو هي «الواجهة البديلة»، لكن (مهما كانت القراءة) تبقى دليلا على أنّ هناك من لا يعتبر (جهرًا وعلانيّة) «الشيخ» راشد الغنوشي «مرشدًا» أو «زعيمًا» بل هو رئيس حزب وجب عليه تحمّل النقد والقبول بمنطق الديمقراطيّة، التي تستوجب (كما كتب محمّد القوماني) «الاقتناع بضرورة النقد الذاتي والتجديد والتشبيب»…
السؤال الذي يطرحه محمّد القوماني عن (غياب) الديمقراطيّة داخل الكيانات السياسيّة عامّة وحركة النهضة خاصّة، رغم تراوح الإجابة عنه، وفق منطق «الفضيلة/الرذيلة» بين «التقديس» الذي يقابله «التدنيس»، يبقى (سؤال محمّد القوماني) دليلا على بدء طرح المسألة بجديّة داخل النهضة، ليس على قاعدة منطق التباهي أمام المرجعيات الغربيّة رغبة في انتزاع «شهادة ميلاد» أمريكيّة، ترتفع بالإسلام السياسي من درك «الظلاميّة» إلى أنوار الديمقراطيّة (بالمفهوم الغربي عامّة والأمريكي على وجه الخصوص)، بل هي ارهاصات ترفض الأهرامات التنظيمية الجاهزة القائمة على «السمع والطاعة»، وفق منطق «الولاء والبراء»…
هي تحوّلات سياسيّة كبرى تمسّ تونس وخارج تونس، وتمسّ كامل الطيف السياسي دون استثناء… سيكولوجيا، لم يعد من الممكن لمن تأسّس فكرهم على التقبّل والتعبير (داخل مواقع التواصل الاجتماعي على الأقلّ) الاكتفاء بمنطق «السمع والطاعة» والتسليم للزعيم/المرشد/الشيخ بعبقريّة تستفرده دون عموم السياسيين والنخب، التي ترى ذاتها «فاعلا» أكثر من «مفعول به».
نرى (عندما نوسّع دائرة الرؤية وزاوية التحليل إلى الأقصى)، منطق التاريخ وسيرورته، من انتقال «صولجان» السياسة من جيل إلى جيل، والأخطر من ذلك اقدام تنظيمات (ذات توجه اخواني) على الاستدارة من منطق «ستاد القاهرة» حين بشّرت دوائر الرئيس المصري الراحل محمّد مرسي العيّاط أنّ «زمن التمكين» من تونس إلى دمشق قد حلّ، من جهة، إلى زيارة القيادي في حركة حماس خليل الحيّة العاصمة دمشق، وتأكيده على «وحدة الدمّ» مع «حلف المقاومة»…
هي «تصفية إرث الماضي» ضمن منطق الفرز والحسم، وتجاوز جدليّة «المرور بين قطرات المطر دون بلل»، والسعي إلى إرضاء «الذئب» دون اغضاب «الحملان»، إلى فهم أو هو التصديق إن لم نقل الحزم أنّ خيوط الاصطفاف الداخلي بمعيّة الإقليمي كما الدولي بدأت تلتحم ببعضها البعض، لتكون «عودًا مستقيمًا» يرفض الظلّ الأعوج.
لا يبدو في الأفق أيّ قدرة للنهضة على توحيد خطابها، بين الرئيس المؤقت الدكتور منذر الونيسي الذي ينتقي العبارات رغبة في الجمع بين صرامة الموقف تجاه «الانقلاب» وليونة تستدعي أو هي بالأحر تستدرج ليونة مقابلة، من جهة، مقابل «جناح النهضة» داخل «جبهة الخلاص»، حين نراهم على حدّ قول الشاعر عمرو بن كلثوم «يجهلون فوق جهل الجاهلين».
البعض يرى في الأمر «توزيعًا للأدوار» إلاّ أنّه طال الزمن أو قصُر، ستخرج هذه الخلافات إلى العلن….
عندها يكون السؤال عمّا بقي من هذه الحركة وإلى كم «شقّا» تبعثرت؟؟؟