تحاول النهضة، أو بالأحرى الأصوات الصادحة داخل القيادة من الدرجة الأولى والمقرّبة من «مرشد الحركة»، إفهام من «يهمّه الأمر» وكذلك القاصي والداني، وعلى الحضور أن يبلغ الغياب، أنّ الحركة فصلت، أو تعتزم الفصل (تنظيمّيا) بين «الدعوي» و«السياسي»، وبذلك تضع سدّا منيعًا بين كلّ من الدين والسياسة، لتتحوّل (وهذا المطلوب) إلى «حزب عادي» ضمن «ديمقراطيّة عاديّة»…
الأهمّ من الإعلان أو هو «الترويج» إن لم يكن «التسويق» (بالمفهوم التجاري) يكمن على مستويين:
أوّلا: إظهار صدق «الحركة» وكذلك «جديتها» في الأمر، وأنّ المسألة تهمّ (وهنا مربط الفرس) «القناعات» وليست مجرّد «كلام شفايف»، بمعنى «العقيدة» (في معناها الواسع والشامل)، أيّ أنّ الأمر شبيه (مع اختلاف الزمن والظرف) بما هو «التأسيس» التي عاشه هذا «الكائن»، سوء عندما نشأت «الجماعة الإسلاميّة» أو «الاتجاه الإسلامي» أو «حركة النهضة»، التي تاتي أشبه بما هي الشرنقة حين تتحيّن الفرصة (المؤتمر) للخروج في «ثوب جديد»…
ثانيا: إظهار أنّ المسألة ستمسّ «اللحمة الحيّة» في الحركة، سواء على مستوى القناعات أو الممارسة، أو هو الفكر كما الخطاب، دون أن ننسى «الوعي» وكذلك «الهويّة» (أخطر الأبعاد وأهمّها)…
بعيدًا عن التصديق (على بياض) أو «التخوين» (المسبّق)، يمكن الجزم بل هو اليقين، أنّ المسألة أعقد (بكثير جدّا) من تلك الرغبة أو الحلم الذي يريدها هذا ويتمناه ذاك، بأن يقول «الشيخ النهضة» للأشياء: «كن» فتكون، وأيضًا، أبعد أو هي أعمق (بل أخطر) من أن تكون مجرّد «عمليّة تمويه» (فقط)…
لا أحد ينكر أنّ مجرّد النظر إلى عامل الزمن، يجد بل يتيقّن أنّ النهضة «شاخت» (بالمعنى اللغوي وليس الدارج) منذ 14 جانفي إلى يوم الناس هذا، أكثر (بكثير جدّا) ممّا عرفت منذ انبعاث فكرة «الجماعة الإسلاميّة» إلى تاريخ «تهريب بن علي»، أيّ أنّ النهضة (أو ماسك القرار فيها) انتقل من موقع «الدفاع» عن الذات والدين والهويّة والوجود الحضاري، خاصّة لعب «دور الضحيّة» إلى منصب «ماسك السلطة والمال والسلاح» (سواء جاء هذا المسك فعلا أو وهمًا)، لتكون رهانات «السابق» (الأمنيّة والوجوديّة) أهون (بكثير) من «تحديّات» الحاضر….
من ذلك أنّ حجم «المتغيّرات السياسية» على المستوى الداخلي والاقليمي والدولي، بالنسبة للنهضة (التنظيم والقيادة والفكر) جاء أهمّ وخصوصًا أسرع نسقًا منذ 14 جانفي وأساسًا منذ تسلمّ السلطة، وعلى الأخصّ منذ التأكّد أنّها أحد اللاعبين الكبار في البلاد، إن لم يكن «الاعب الأكبر» بموازين القوى الراهنة أو القادمة على الأمد القصير والمتوسط.
الأكيد وما لا يقبل الدحض (وما تنكره النهضة بشدّة بل في عنف)، أنّ كلّ هذا «التحوّل» جاء ضمن «اكراهات» (شديدة جدّا)، وليس (كما هو معلن) «حركة إراديّة أملتها قراءة الوضع العام للبلاد»، لذلك يكون اليقين (بالمعنى الفيزيائي والكيمائي) أنّ «مسار التغيير» وكذلك حجمه وأساسًا «مداه»، سيكون مرتبطًا بل مرهونًا بأمرين اثنين، أو هما ميزاني قوى:
ميزان القوى الأوّل: حجم الضغوطات الدوليّة خاصّة المسلّطة على كامل «الطيف الإسلامي» (المعتدل)، الذي أثبت أنّه «رقم صعب» كما (في الآن ذاته) «تلميذ نجيب» (جدّا)، حين أتقن «الظهور» في صورة «النابغة» الذي حفظ «دروس الديمقراطيّة» (جميعها)، بل صار يزايد فيها على طائفة «الديمقراطيين» (المحليين).
ميزان القوى الثاني: حجم الضغوطات الداخليّة سواء ضمن الحركة ذاتها أو هو الطيف «الإسلامي» بكامله، الذي بدأ (منذ انتخابات 23 أكتوبر) يوجه نقدًا حادّا للحركة، سواء بالنظر إلى المرجعيّة المعتمدة أو هي الخيارات السياسيّة، دون أن ننسى «طيف الثوّار» (الفكرة أكبر من الكتلة) الذي «خوّن» النهضة جهرًا وعلانيّة…
ترفض النهضة الاعتراف بل هي تسعى (أشبه بمريض الوهم) أن تقنع نفسها بأمرين اثنين:
أوّلا: أنّها صاحبة هذا القرار، وهي تفعله «حبّا وطواعيّة» (كما يغنّي مارسال)، نظير «وجه الله» وحبّا للوطن، بل جعلت النهضة من «التواضع السياسي» رأسمالها الأوّل وورقة «جوكر» تسحب بها البساط من تحت أقدام «الديمقراطيين» خاصّة…
ثانيا: أنّ ما تفعله يشكّل «تطورّا طبيعيا» بل أمرًا عاديا، ضمن مسار الحركة الزمني، ومن ثمّة المسألة لا تعدو أن تكون «نضجًا» أشبه بما قدمته حركات أخرى ضمن نفس المسار…
تلعب النهضة أو هي ترقص على تقاطعات حارقة، بل أقرب ما تكون إلى الهاوية، ضمن مساحة بدأت تضيق منذ أن قرّر الأمريكان وقبلت هي أن يجتمع «الإسلام» مع «الديمقراطية» (في مخبر مروان المصمودي)، ليس لقناعة مراكز الأبحاث في واشنطن بوجاهة القرار أو صواب الفكرة، بل (وهنا الخطورة) محاولة «تفكيك» هذه الحركات من الداخل:
أوّلا: بجعلها تصبح شبيه بما هي الأحزاب الأخرى على المستوى «الأخلاقي» لتفقد بذلك «الريادة» (الأخلاقيّة بالمعنى الديني)، وأيضًا تفقد (وهذا لا يقلّ أهميّة) أيضًا «دور الضحيّة»، لتكون النهضة الآن أبعد ما تكون عن «التفوّق الأخلاقي» أو «الضحيّة»، بل هي «الجلاّد»، الذي وجب محاسبته (مثال أحداث الرش في سليانة)…
ثانيا: تحويلها إلى «وسيط» سلطة، أيّ أن تلعب دور «الجلاّد»، سواء على مستوى النفوذ المباشر، أو الذهاب في «حركات قمعيّة» تمليها تقاطعات المعادلة بين الداخل والخارج…
هو سباق ضدّ الزمن وعلى سراط السلطة، وسط معادلة اقليميّة ودوليّة متغيّرة، بل متقلبّة، سواء في تركيا أو مصر خصوصًا، ممّا يعني أنّنا أمام «صناعة الصورة» مقابل أو بالتوازي مع «صياغة الحكم»، أيّ بالصريح المباشر، تأتي حظوظ النهضة في «النهضة» في النجاح (في هذا الامتحان) شديدة الارتباط بل مشروطة بقدرتها على تغيير المعادلة من خارجها (أي خارج المعادلة)، سواء بتراجع الدور الأمريكي أو سيطرة (في السرّ وفي الخفاء) على دواليب الدولة والمجتمع، ممّا يعني عودة (أو دون قطيعة) مع أسلوب «التمكين» في ارتباط مع «حاكميّة السيّد قطب»…
الخلاصة: تغيّرت القارورة وتغيّر الطعم، لكنّ التركيبة الأساسيّة لا تزال كما هي…