حين نعود إلى نتائج الانتخابات التشريعية ونعتبرها «الخارطة» (الأفضل) للمشهد السياسي في تونس، يمكن الجزم أنّ ثنائي النداء/النهضة يمثل غالبية المشهد في البلاد.
هذه الأغلبية في ترجمتها الفعلية تعني سيطرة الثنائي على مجلس نواب الشعب وكذلك (وهذا الأهم) «قدرة» (افتراضية) للسيطرة على الشارع، حين يكون الجزم بأن السيطرة على مجلس نواب الشعب دون السيطرة أو الوجود الفعلي في الشارع تأتي عديمة النفع، خصوصا في دول التحول الديمقراطي حيث لا تزال الديمقراطية «هشة» بل قابلة للكسر وبالتالي عودة البلاد إلى سالف العهد ون طغيان وغياب الحد الأدنى من الديمقراطية.
حين نتجاوز البيانات أو غياب الموقف، بخصوص انتشار الاحتجاجات العنيفة في البلاد، يكون السؤال عن موقف العمق الشعبي للحزبين الأقوى في البلاد حين نرى تحركات «الشارع» (الفاعل على مستوى التحركات الميدانية) أقرب إلى نقيض الحركتين، على الأقل على مستوى الشعارات المرفوعة دون الحديث عن ممارسة العنف والاعتداء على مقرات السيادة ونهب البنوك والمؤسّسات التجارية.
هي معادلة أو بالأحرى غياب «التوافق» (الكلمة السحرية الجامعة للحركتين) بين ظاهر المشهد السياسي القائم في البلاد من جهة في مقابل الصورة الماثلة أمامنا على الميدان.
ليكون السؤال على درجتين:
أولا: أين العمق الشعبي للحركتين من هذه التحركات، خصوصا العنيفة منها؟
ثانيا: أين الحركتين من القدرة (الافتراضية) على ضبط الشارع والتحكم في الوضع؟
أهمية السؤالين تأتي خاصة في بلد مثل تونس أين تعمل الأحزاب (الكبرى) من خلال الماكينة على الأرض أكثر من الايدولوجيا في ذاتها.
كذلك وهذا لا يقل أهمية: لماذا عجز التوافق بين الشيخين عن تحييد البلاد عن مثل هذه المشاكل/المصائب خاصة وأن هذا «التوافق» تم تسويقه في صورة «العصا السحرية» أو هي «عصا موسى» القادرة ليس فقط على ضمان الاستقرار بل يكون «السد» (المنيع) أمام مثل هذه الهزات العنيفة.
عجز التوافق على أن يمثل القاطرة لديمقراطية تتعثر وعجز على أن يلعب دور السد أمام مثل هذه الهزات.
من الأكيد وما لا يقبل الجدل, أن «أحداث العنف» (هذه) تمثل ضربة في الصميم أو هي طعنة في قلب التوازنات الناشئة عن منطق الصندوق، بل الأخطر والمثير للقلق أن هذا الشارع (أو جزء منه) ليس فقط يرفض منطق الصندوق هذا وما نشأ عنه، بل وهنا الخطورة يسعى إلى تدميره ومن ثمة الحلول مكانة.
سواء اكتفينا بتصريحات الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية بان الجبهة «تشارك في الاحتجاجات» أو صدقنا (وفق نظرية المؤامرة) أنها من تقف بصفة متعمدة وراء كل العنف، فإن الأحداث أثبتت ما يلي:
أولا: أن الخارطة السياسية في البلاد هي مزيج بين موازين الصندوق الانتخابي من جهة وتوازنات الشارع.
ثانيا: أن الجبهة الشعبيّة استعادت «مكانة» ضمن المشهد السياسي، حين جاءت «الاتهامات» في خدمتها، ممّا يعني (وهذا نجاح لها) أنها عوضت «الخسارة الانتخابيّة» بتحقيق نقاط على الميدان، تبحث عن مقايضتها بشكل من «أشكال الوجود السياسي».
نحن إذًا أمام تعطّل للحياة السياسيّة (الديمقراطيّة والتقليديّة) وذهاب إلى «موازين الشارع»، ممّا يعني أنّ النداء وخاصّة في خيار بين أمرين:
أوّلا: ترك الشارع للجبهة بمفردها، والاتكال على قوّات الأمن لتحصيل «الهدوء»، ومن ثمّة العود والرجوع إلى «الشكل التقليدي» للفعل وردّ الفعل السياسي (التقليدي).
ثانيا: النزول إلى الشارع، تحت أيّ صفة كانت، وإعطاء الأوامر المباشرة للقواعد بالتصدّي للعنف، سواء ضمن «مساعي» حماية المرافق العامّة أو حفظ المحلات التجاريّة، أو حتّى انتزاع الشارع ومنعه عن «العناصر العنيفة».
هي مقامرة في الحالتين، حين يمكن الجزم أنّ قطاعات واسعة من «الشباب المحروم» ليس فقط «كفر بالسياسة والسياسيين» بل هو «أقرب إلى الجبهة» على الأقل يتقاسم معها «شعاراتها» ومن ثمّة تكون الجبهة أمام فرصة تاريخيّة للرفع من منسوبها الشعبي والمطالبة (بشكل أو بآخر) بحصة في الساحة السياسية تتجاوز نتائج انتخابات «مجلس نواب الشعب» (وهذا هو الخطر)، ومن ثمة الذهاب في صياغة موازين جديدة، سواء على شاكلة «الحوار الوطني» أو الذهاب في انتخابات جديدة.
نزول القواعد إلى الشارع بقرار تنظيمي، يحتمل وجوه عديدة، أولها الصدام مع عناصر الجبهة مباشرة أو مع الشباب الثائر معها، ومن ثمّة الذهاب في مواجهات، ليس فقط قادرة على الدخول بالبلاد إلى «مناطق مجهولة»، بل القضاء على «الانتقال الديمقراطي» برمته والعود بالبلاد (في أفضل الحالات) إلى مربّع 14 جانفي 2016.
يمكن الجزم أن الجهات أو الجهات التي تسيطر على الشارع استطاعت جرّ المنظومة السياسيّة من منطق «التلاعب السياسي» إلى موازين القوى على الأرض، مع وجود حكومة جمعت التردّد بالارتجال، ومنظومة أمنية نصفها في حال إضراب مقنّع والنصف الأخر دون إمكانيات حقيقية وقرار سياسي واضح.
من الواضح والأكيد أن هذه المواجهات العنيفة قد غيرت المشهد السياسي برمته إضافة إلى خطورة أو هاجس الذهاب بالبلاد نحو المجهول، ومن ثمّة لا ينفع الطبقة السياسيّة:
أوّلا: وضع الرأس في التراب كمثل صورة النعامة والاكتفاء بالبيانات التنديديّة، أو الشعارات الفضفاضة
ثانيا: الانزلاق إلى مربّع العنف، الذي لا يمكن أن يكون سوى وبالاً على البلاد عامّة وعلى المسار الديمقراطي
في تجاوز لجميع الأحزاب، يمكن الجزم أنّ الخطأ يكمن في الذهاب بهذه المواجهات نحو، أوّلا، أفق الصراع الحزبي وثانيا «الرشاوى الاجتماعيّة»، ونسيان أنّ الأزمة (مهما كان محركها) تكمن في برميل بارود عماده شباب يبحث عن الأمل.