حرّكت صورة راشد الغنوشي خطيبًا في جموع النداء، هواجس أعداد (غير قليلة) من «اليساريين» وأصحاب «الفكر الحداثي» لدرجة جعلتهم «يقفزون» في اليوم الموالي إلى الاجتماع محسن مرزوق، من باب «الشماتة» في الباجي، هذا الذي بنى وشيّد وهزّ جدران حزبه على مقولة «الاقتراع المجدي» Le vote utile، بمعنى أنّه (حين الوعود الانتخابيّة) كان يعتبر نفسه «السدّ المنيع» أمام مرور النهضة وعودتها إلى الحكم.
من الثابت وما لا يقبل المناقشة أنّ أصحاب هذا «الاقتراع المجدي» الذين لم يصوّتوا للباجي لأسباب أيديولوجية أو سياسيّة، بل رغبة في عدم «تشتيت الأصوات» كان همّهم ليس فقط حرمان النهضة من المرتبة الأولى، بل (وهنا الأهميّة) عزلها والنزول بها إلى أسفل ترتيب ممكن.
نجح أصحاب «الاقتراع المجدي» (ضمن طيف كامل) في جعل النداء يرتقي للمرتبة الأولى على مستوى الانتخابات التشريعيّة، وكذلك تمكّن الباجي من الفوز في الانتخابات الرئاسيّة، في انتظار أن «يفي» الباجي وحزبه بالوعد، والذهاب في «عزل» النهضة، أي «تشكيل حكومة بدونها»…
تصرّفات الباجي جاءت كلّها مناقضة للوعود الانتخابيّة، بل عمل واجتهد للتأسيس لحلف استراتيجي مع «غريم الانتخابات»هذا، الذي وفّر له أمورًا لم يكن بمقدوره توفيرها من جهة أخرى:
أوّلا: حاجة النهضة ذاتها بل أكثر إلى مثل هذا «الحلف» يجعل الباجي يرتقي من درجة «المحتاج» إلى مرتبة «صاحب الفضل»
ثانيا: الحلف مع النهضة، أعفى الباجي من ابتزاز الأحزاب الصغرى التي كانت بالتأكيد ستحاول نيل مناصب حكوميّة أفضل من نصيبها في الائتلاف الحكومي،
ثالثًا: المحيط الاقليمي والعمق الدولي، الذي يرى أنّ هذا «الحلف» يمثّل «الوعاء الأفضل» لصياغة الاستقرار في البلاد، خاصّة أنّ النهضة ليس فقط لم تمارس «الابتزاز» بل جاءت «متعفّفة» عن المناصب.
من ذلك يأتي السؤال الأهمّ لدى الدوائر «الأخرى» (غير النهضة والنداء) يخصّ المدى الذي سيقطعه الشريكان في تأسيس «الشراكة» (القادمة)، بين حدّين
أوّلا: هل سيواصلان ضمن الروح التي أسّس لها خطاب الغنوشي أثناء المؤتمر، من «حبّ جمّ» وعلاقة تكاد تكون «اندماجيّة»
ثانيا: هل سيكون التعاون بين الطرفين تكتيكيا، مع صراع على دواليب الدولة والمراكز الحسّاسة في البلاد؟
بين هذين السؤالين وما يتراوح عندهما من أجوبة، سيحسم الجميع أمره للحرب القادمة أساسًا، «اليسار» (المعادي للحلف) وكذلك الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي لن يرى بعين الرضا هذا «الاستقواء»، دون أن ننسى أطرافًا من «أجهزة الدولة» كمثل النقابات الأمنيّة وغيرها التي كانت تلعب بل تصطاد في هامش المناورة ومن ثمّة الربح بين الضدّين…
لأوّل مرّة تأتي المعادلة بهذا الشكل، النداء يخرج «من طلاق» شديد الكلفة، ومن ثمّة يبحث عن ربح الوقت حين أجّل مؤتمره الانتخابي إلى فصل الصيف، وهو يعلم أنّ الحرب مع «شقّ مرزوق» لم تبدأ بعد، ومن ثمّة هو في أشدّ الحاجة إلى حليف «صبور» وكذلك «قنوع» مثل النهضة.
في الصفّ المقابل تعلم النهضة أنّ عليها أن تدفع الغالي والثمين من أجل قطع الطريق على أيّ اتفاق أو حلف بين النداء وطيف اليسار، ومن ثمّة تأتي حاجة النداء إليها في شكل «عربون استراتيجي»، أو هو بمثابة «عهد أمان» بينهما، حين لا «غدر» ولا «طعن» في الظهر.
من الأكيد أن أعداد كبيرة ممّن توافدوا على التظاهرة التي نظمها «شقّ مرزوق» لم يأت حبّا في الرجل أو رغبة في الانضمام إلى حزبه، بل ردّ فعل عاطفي وانطباعي أمام الخطاب الذي ذهب فيه الغنوشي حدا لم يصله أبدًا وثانيا، من باب السؤال إن كان محسن مرزوق يمثّل «قارب النجاة» فعلا.
مرزوق (الذكّي بطبعه) أحسّ بالخطر، وخرج باللعبة من مرتبة المعارك الشخصيّة إلى القطيعة في المفاهيم، معلنًا أنّه حزبه لن يكون لا في «المعارضة» ولا في «الائتلاف الحاكم»، مخترعًا وصف «المتابعة» تفاديا للحروب التي ستأتي عليه في القادم، حين يعلم علم اليقين، أنّ أولى الطلبات تتمثّل في التأسيس لحزب «قابل للحياة»…
الخارطة التونسيّة بكاملها على أهبة التغيّر أو هي بصدد التبدّل، حين فقط اليسار أمله (كعادته) في جعل الدولة (أو النظام القديم ممثلا في النداء) يتصارع حدّ الموت مع الاسلاميين كما فعل بن علي، بل النقيض هو ما يجري، خوف النداء من ضربات اليسار ومرزوق خصيصًا وخوف النهضة من هذا اليسار، يجعل الحلفين في وارد الدخول في «حرب فتوحات» في مجال الاعلام خصوصًا…
ستشرع النهضة والنداء، في تمشيط البلاد (أي مناصب الدولة) والبحث عن انتزاع «الأعداء» من مواقعهم، ليس فقط تفاديا للضربات، بل من باب تأكيد السلطة وتأمين المستقبل خاصّة وأنّ حافظ قائد السبسي يمتلك 6 أشهر فقط لإعادة توزيع الأدوار ضمن حزبه الخارج من حرب ضروب، حرب تستوجب اقتلاع الأعداء واحدًا واحدًا…