يكفي أن نجري جردًا للواقع السياسي في تونس، في اكتفاء بما جدّ من أحداث منذ صدور نتائج الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لسنة 2019، لنتبيّن من النظرة الأولى ودون جدل أو نقاش، أنّ «مكاسب» هذا الطرف و«سلاحه»، ليس سوى هفوات ارتكبها الطرف المقابل، وليس انجازًا بالمفهوم المباشر للكلمة.
بانت قوّة رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد وتجلّت قدرته على الصعود إلى مرتبة عليا في مستوى الخصام، بفعل دستور مكّنه من تكليف من شاء وأراد دون حسيب أو رقيب ودون إلزامية ذكر الخصائل وتعداد الكفاءات بتشكيل الحكومة. حريّة تامّة ودون حدود، نصّ عليها الدستور وأكّدها، حين عجز محمّد الحبيب الجملي (المٌقترح من طرف الحزب الفائز بأعلى عدد من المقاعد) عن التشكيل. وضْعٌ جعل الرئيس قيس سعيّد يمسك بعدد غير هيّن من الأوراق، بل يحتكر الورقة الأفضل (الجوكر)، حين يُمْكنه بكلمة واحدة ووحيدة حلّ البرلمان، والذهاب بالبلاد والعباد وخاصّة نوّاب الشعب وعلى الأخصّ من صعدوا بفضل «أفضل البقايا»، في حال شرب هؤلاء النوّاب «حليب السباع» وأصرّوا على «الانتحار»، إلى انتخابات تشريعيّة سابقة لأوانيها، لا أحد منهم (مع استثناءات قليلة جدّا) ضامن العودة من جديد والجلوس مجدّدا على المقعد ذاته. ممّا يعني أنّ الدستور الذي أصٍرّت حركة النهضة صاحبة الكتلة الأكبر في المجلس الوطني التأسيسي، على جعله «هجينًا» فيه (ما رأت وارتأت أنّها) محاسن النظام البرلماني وما يزعج البتّة من النظام الرئاسي، انقلب إلى «سلاح ثقيل» إن لم نقل «سلاح دمار» بين أيدي ألدّ أعدائها راهنًا.
في المقابل، ما كانت النهضة تتحوّل فعلا إلى «الشوكة» التي نرى في حلق قيس سعيّد، وقد جعلته يرى النجوم في عزّ الظهر، في حال لم يكلّف هذا الرئيس، هشام المشّيشي بتشكيل الحكومة، وكذلك في صورة ما لم «ينقلب» هذا الشخص على «وليّ نعمته» والحال أنّ هذا الشخص (أيّ هشام المشّيشي) لا يملك كفاءة تميّزه وقدرة تجعله فوق العشرات أو بضع المئات من أمثاله الذين تداولوا على كراسي الوزارات منذ (على الأقلّ) 14 جانفي 2011، ممّا يعني أنّ «الزلّة» التي جعلت النهضة تمسك الرئيس قيس سعيّد من «مكان حسّاس» لم يبتكرها «الشيخ التكتاك» رغم سعة دهائه وقدرته الرهيبة على المناورة، بل هي (وهنا الأهميّة) هديّة دون ثمن، أو هي مجانيّة من قيس سعيّد، لأنّه في حال اختار هذا الرئيس شخصا متفقا مع هواه ومتناغما مع مراميه، لكان أذلّ مجلس نوّاب الشعب وجعل نوّابه ليس فقط رهائن، بل لا يتنفّسون إلاّ بأمره ولا يتحرّكون سوى بإشارته، مع استثناء عدد قليل ممّن لا يتشبثون بالكراسي أو ممن هم ضامن العودة في حال جدّت انتخابات سابقة لأوانيها. هذا النفوذ أو السطوة التي ما كان يمكن لقيس سعيّد أن ينالها، هي ضامنة لأيّ حكومة تزكية جدّ محترمة، لأنّ في حال اسقاط الحكومة، تكون انتخابات سابقة لأوانيها، يكفي مجرّد الإشارة إليها والتلويح بها، ليُصاب عدد غير هيّن من نوّاب «أفضل البقايا» ومعهم عدد غير هيّن من نواب «النسبة المكتملة» بالإسهال (دون مبالغة) لأنّ الأوّل ليس ضامن الحصول على ما يجعله ينتفع بنظام أفضل البقايا، والثاني غير ضامن أن ينال مكانة مرموقة ضمن قائمات حزبه.
يكفي فقط تخيّل المشهد، في حال لم ينصّ الدستور (الذي شاركت النهضة بالكثير في وضع مواده) على تمكين الرئيس من مطلق الحريّة بتكليف من هبّ ودبّ ومن شاء وأراد بتشكيل الحكومة. كما يكفي أنّ نتخيّل الرئيس دون قدرة على حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانيها، لنرى الصورة مغايرة جدّا، بل هي على شكل لا يمكن أن تخيّله أصلا.
لا يتحمّل مسؤولية «الانكفاء» في الزاوية التي يعيشها قيس سعيّد وهو يشاهد «من يختاره» يحالف «من يعاديه» وينزعان منه «العصا السحريّة» التي كان يملكها بالتهديد أو هو مجرّد التلويح بحلّ مجلس نوّاب الشعب، سوى قيس سعيّد ذاته.
لا يتحمّل مسؤوليّة ما تصف به قيادات النهضة كما قواعدها، في تناغم قلّ نظيره قيس سعيّد بما يرون أنّها «عربدة» أو هو «التطاول» على السلطة التشريعيّة، التي يرأسها زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي، وحتّى «الإعداد لانقلاب» يلغي فيه هذه السلطة ويستحوذ به على صلاحيات «الابن العاق» هشام المشيشي، في حال لم تجعل النهضة (الطرف الأقوى في تحرير الدستور) كامل هذه الأوراق بين يدي هذا الرئيس، إلاّ حركة النهضة ذاتها.
كذلك، ما كان أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد يجد ثغرة بين مواد الدستور أفتى بناء عليها بأنّ وزارة الداخليّة من مشمولاته، في حال لم يرتكب نائب النهضة في المجلس التأسيسي حينها، الحبيب خذر «خطأ» بمثل ما نرى في فداحة، حين لم يحسم على مستوى التركيبة اللغويّة الأمر وجعل «الخلط» ممكنًا بين «القوّات المسلحة» و«القوّات العسكريّة»، هذا دون أن نغفل الفصول التي جعلت الرئيس قيس سعيّد ينفرد بحريّة تكليف من يشاء بتشكيل الحكومة…
تقف البلاد أمام حالة «مغالطة» كبرى، بل هي «كذبة» لا مثيل لها :
أوّلا : قيس سعيّد هو من أضرّ بشخص قيس سعيّد، ولولا ما ارتكب من أخطاء في حقّ ذاته، لكان في وضع أفضل بكثير جدّا.
ثانيا : خطأ أو جريمة، حصول قيس سعيّد على مثل ما له من نفوذ، ليس مردّه قوّة الرجل أو دهائه أو سعة حيلته أو قدرته على المناورة، مع ما أصاب الحركة ومازال يصيبها من قصف مركّز، بل قلّة حيلة الحبيب خذر وعجز الغنّوشي ومن معه من قيادات النهضة عن قدرة «التخيّل الاستباقي» لما يمكن أن يحدث دستورُا (لم يشارك قيس سعيد بتحريره)، وبالتالي لا يمكن اتهامه بالوقوف ورائه كما يفعل «ذبابها الأزرق»، بل هم من جعلوا أصابعهم في أعينهم.