منذ أن دخل الإسلاميون على الخطّ السياسي منذ أواسط سبعينات القرن الماضي تحوّل أو بالأحرى انحدر «اليسار» (ضمن المعنى الواسع والشامل للكلمة) من «الخطر الاستراتيجي» إلى (مجرّد) «المزعج التكتيكي»، حين صعد «الطيف الإسلامي» فجأة ودفعة إلى «المرتبة الأولى»…
منذ ذلك التاريخ، بقي اليسار متراوحًا بين «الاندماج» (في السلطة) من باب «أولويات العداوة» أو في سعي إلى «إزعاج» (هذه) السلطة من باب اثبات الوجود.
هذه القاعدة، كسرها الباجي دفعة واحدة ودون اعداد أو هي بعض «العداوات»، حين صرّح أنّ «اليسار» (المتطرّف) أخطر من «التطرّف» (الإسلامي).
أحسّ اليسار (لأوّل مرّة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي) أنّه (كما يقول التعبير الشعبي) في «فمّ المدفع»، أيّ أنّه في مواجهة «السلطة» (أو الجزء الأهمّ منها)، حين لم يبتعد الإسلاميون عن المواجهة فقط، بل (وهذا الأخطر والمهمّ) صاروا «حلفاء السلطة»….
انقلبت الصورة، أو هو «النقيض» الذي صار إلى «النقيض»، من نظام بورقيبة الذي يتعقّب الإسلاميين وبعد بن علي، ويرمي بهم في غياهب السجون، حين كان «جزء» الأهمّ من «العائلة اليساريّة» (وليس الكلّ) بين مشاركة في الحملة والمساهمة في تجفيف الينابيع، أو هي «الشماتة» (المعرفيّة)، إن لم نقل «التشفيّ» (الأيديولوجي)، يجد هذا «اليسار» (ذاته) ببعض «الشخوص» في الموقف ذاته، أيّ في مواجهة جزء غير هيّن من «الدولة» حين بقي الإسلاميون (في أفضل الحالات) في حال المشاهدة والفرجة، إن لم يمارس بعضهم «شمامة» (معلنة) أو «التشفّي» (المكشوف)….
هل يعيد التاريخ ذاته، مع انقلاب الصورة؟
هو ذات التاريخ، لكن بفواصل أخرى وتفاصيل غير الأولى:
أوّلا: كمثل ما كانت «النهضة» (وسابقها «الاتجاه الاسلامي») تمتلك «مداخل» داخل دواليب السلطة، يمتلك «الطيف اليساري»، على الأقلّ المعني بكلام الباجي وتهديده وعداوته عديد المناطق الهامّة داخل خارطة السلطة، مع التأكيد أنّ «رأسمال» النهضة حينها كان أكثر تخفيّا، في حين تقدّم «الطيف اليساري» داخل دواليب الدولة (منذ مطلع سبعينات القرن الماضي) بوجوه (شبه) مكشوفة، على عكس النهضة، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ معركة الباجي مع «الأصل السياسي» (اليساري) داخل دواليب الدولة، لن تكون نزهة، بل تتطلّب وقتًا وشراء ذمم وخطط للتخلّص من هذا أو تحييد ذاك.
ثانيا: يأتي الطيف السياسي في البلاد، غير المعني (ماديّا) بالمعركة المرتقبة، بل أقرب إلى الفرجة والمشاهدة وترقب نتائج «المباراة» في استثناء للنهضة التي أعلنت عديد المرّات ليس فقط وقوفها إلى جانب السبسي، بل «النزول إلى الشارع» (مع ما يعني الأمر خطورة شديدة)، حين قدّرت أنّ «اليسار» (المتطرّف) جاوز المدى أثناء الاحتجاجات التي شهدتها مدن عديدة من البلاد…
كمثل سبعينات القرن الماضي، لن تمثل هذه «المعركة/المحطّة» عاملا مؤثّرا في المشهد السياسي فقط، بل (وهذا الأهمّ) ستعيد صياغة ماهيّة «العقل السياسي» (الحاكم)، حين يمكن الجزم أنّ الباجي قائد السبسي، على شاكلة بورقيبة وبن علي، يعيش هاجس «الغدر» وكذلك «المؤامرة»، إن لم نقل «الخيانة» أو هو «عضّ اليد» (التي قدّمت المعروف)…
إنّها نفس «الروح الاقطاعيّة» الطابعة للحياة السياسيّة على المدى الطويل منذ القدم. «معركة» زعامات أوّلا، تردفها «انقلابات» في «الولاء»، حين يمكن الجزم أنّ «الفرقاء» يحملون حقدا وجوديّا تجاه بعضهم البعض، وليس خلافًا فكريّا أو أي شكل من أشكال التضارب في وجهات النظر. بل هي حرب وجود لا فصال فيها، سواء «الإبادة» التي مارسها بورقيبة في «شماتة» (المتكبّر) وبن علي في «ساديّة» (المريض) ويريد الباجي ممارستها في «لذّة» (ظاهرة)…
صعوبة المرحلة (أو هو الاختلاف مع سبعينات القرن الماضي)، هو أنّ السلطة الآن تأتي أقلّ تماسكًا.
من قبل كانت النهضة (أو الاتجاه الاسلامي) تخاصم من أجل السلطة والوصول إليها (من باب التمكين)، في حين يخاصم كلّ من (سي) محسن مرزوق ومعه «الجبهة الشعبيّة» من داخل السلطة ذاتها، حين تحوّلت هذه السلطة من سلاح إلى أرض للمعركة، أو هي «شظايا» يضرب بها هذا ذاك…
من الأكيد وممّا لا يقبل الشكّ أو حتّى المناقشة، أنّ سلطة بورقيبة أو من بعده بن علي، كانت أقدر على «صناعة الصورة» أيّ الدولة «الواحدة» ذات «القرار الأوحد»، في حين تأتي تونس (راهنًا) أقرب إلى «اقطاع القرون الوسطى» (في أوروبا) زمن لويس الحادي عشر، حين لم يكن «المركز» (أي الباجي) يملك من «السلطة» سوى «الرمز» (أي قرطاج) ليتقاسم النفوذ مع النبلاء والإقطاعيين، بحسب وزن كلّ واحد (العسكري) ومركزه (السياسي)…
لذلك تأتي هذه «الحرب» (الأهليّة) التي شهدنا وشاهدنا أوّل «عروضها» في الشارع، شديدة الخطر على وضع شديد التأزيم، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ «الطيف اليساري» الذي عاش (منذ منتصف سبعينات القرن الماضي) يلعب دور «الطفل المشاغب» ولم يرتفع (إلاّ مؤخرًا) إلى مرتبة «المجرم الخطير»، لتكون المعاملة، كمثل الانتقال من «سجن الأحداث» فجأة إلى أخطر جناح في سجن «الهوارب»….
من الأكيد وما لا يقبل الجدال، أنّ المعركة قادمة، بل هي قائمة على وسائل الإعلام، وكذلك وراء كواليس الإدارة وداخل أجنحة السلطة، ممّا يعني أنّ كلّ «شقّ» لا يبغي الخروج إلى العلن بالعداوة، قبل أن يستكمل كامل شروط المعركة أو هي شروط الفوز، إن لم نقل الانتصار الكاسح…
لاعتبارات اقليميّة وضوابط دوليّة وشروط محليّة، لا يمكن للباجي «المخضرم» أو محسن مرزوق «الألعبان بين الألوان السياسية» أو حمة «صانع الكلام» أن يرتكب «حماقة» اعلان الحرب أو الظهور في صورة «البادي بالعدوان»…
فقط، بين حرب في الخنادق الخلفيّة والخطوط الخفيّة، حين يأتي السؤال، متى نشاهد «الحلقة الأخيرة»…