باي الشعب : ما أشبه ثوّار الماضي بثوّار الحاضر…

28 يناير 2021

تكمن أهميّة العمل الوثائقي التي أنجزته شركة Folk Stories Company في جزأين عن علي بن غذاهم تحت عنوان باي الشعب، في التقابل الصارخ والقويّ جدّا بين صورتين :

أوّلا : صورة مرئيّة بالعين وصوت مسموع بالأذن، غرق جماليا حدّ أدقّ التفاصيل في الماضي، أو هو الراهن أو الظروف التي حفّت بالثورة التي عمّت البلاد في النصف الثاني من القرن التاسع تحت قيادة «باي الشعب» علي بن غذاهم.

ثانية : صورة ذهنيّة، ترحل قسرًا وعنوة بالمشاهد من «راهنيّة» المشهد الجمالي (الذي يقدمه العمل) إلى راهنيّة الظرف الحالي في تونس، حين بنى وأنجز العمل شكلا من التوازي وإن كان بالإشارة والغمز والإحالة وحتّى الإيهام (بالمعنى) إلى «ثورة الشعب» التي تعيشها تونس منذ 17 ديسمبر 2010…

abg3جميع الشهادات، التي قدّمها أكاديميون وأساتذة تاريخ جاءت محصورة في الثورة التي قادها «باي الشعب»، وكذلك المشاهد التمثيليّة، لكن وراء الشاشة أو قبلها، صورة البوعزيزي وعشرات الشهداء الذي سقطوا إبان الفترة 17 ديسمبر/14 جانفي…

أساس هذه الصور، ليس حجم العنف الذي مارسه بايات الماضي وأمثالهم في العصر الحديث، بل (وهنا أحد أهمّ ركائز العمل) السذاجة والسطحيّة التي ميّزت «ثوّار الأمس» كما هو الحال «ثوّار الراهن»، حين تمّ التأكيد أنّ الخسارة لم تكن لقلّة في عدد الثوار أو قلّة الصدق أو حتّى الخوف أو الجبن، بل زمن علي بن غذاهم كما ثورة الحاضر لعدم قدرة الثوّار على قراءة المشهد أبعد وأعمق خاصّة من «ظاهر الأمر»، أيّ تلك الطوباويّة التي جعلت البايّ الظالم يعود إلى سالف قوّته ويسترجع المبادرة، بل يخمد الثورة بالحديد والنار، في حين زاوج «باي الحاضر» بين وعود دون تنفيذ وإيهام لا صدق فيه، وما لزم من الحديد والنار (القصبة 3)…

تاريخيّا وصل الثوّار الماضي زمن علي بن غذاهم إلى ضاحية حمّام الأنف، ونام ثوار القرن الواحد والعشرين أسفل قصر القصبة، دون أن يملك لا هذا ولا ذاك جرأة أو هو الإقدام المطلوب لإسقاط سلطة كانت أشبه ببيت العنكبوت…

abgبين ردهات هذا العمل الوثائقي في جزأين، يدور سؤال غير منطوق : هل امتلك «ثوّار» الأمس كما اليوم، مشروعا سياسيا متكاملا، يأتي تعبيرًا صادقا وترجمانا أمينا لتطلعات من ثاروا ومن دفعوا دماءهم، وخاصّة ذلك العمق الشعبي المطلّع إلى غدّ أفضل؟؟؟

ما هو أكيد، أن علي بن غذاهم ومن بعده ثوّار 17/14 لم يحملوا مشروع دولة مكتمل وجاهز وخاصة قابل للتنفيذ. في الحالتين، قبل الثوّار، وإن كان على مضض، بإجراءات إصلاحيّة لا تمسّ ولا تضع شرعيّة «الدولة» (وخاصّة نمط إدارتها لشؤون الناس) موضع السؤال أو الشكّ أو حتّى النفي.

خلاصة هذا الشريط الوثائقي في جزئيه أنّه يؤكّد على أنّ الثورات الناجحة والنافذة، لا تبنيها لا النوايا الطيّبة ولا الأحلام اللذيذة، بل أكثر من ذلك : دولة الظلم والقهر والطغيان قادرة على العود إلى عنفوانها بل السيطرة وممارسة أعلى درجات الانتقام في حال عدم اجتثاثها من جذورها…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي