لا يمكن سوى للمؤرخين، حين يحين الموعد أو ربّما حين يفرغ برهان بسيّس ما في جعبته عن «طواعيّة» وخصوصا «الصدق»، معرفة الدواعي التي دفعت برهان بسيّس إلى لفظ ما قاله بخصوص اتّحاد الشغل، خاصّة أنّ أراد وأورد «الذمّ» في قالب «المدح» لتكون الخلاصة والاستنتاج، وهذا ما يبقى في السياسة: أنّ «الاتّحاد العامّ التونسي للشغل» (مع حفظ المقام والتاريخ) لا يعدو أن يكون سوى «كبش نطح»، خرج أو تمّ إخراجه «عند الحاجة»، ومن ثمّة لا يرقى سواء بما هو «المديح/الذمّ» أو بالاستنتاج المنطقي، أن يكون «الشريك» الذي يجلس حول «طاولة المفاوضات» لأنّ في الأمر (سواء اعترف بسيّس أو لا) إعادة ترتيب القوى الفاعلة في البلاد على ضوء موازين القوى القائمة/القادمة استعدادا، سواء للمحطات الانتخابيّة (في حال اتمامها) أو الصراع المفتوح (على جميع الاحتمالات) من أجل السلطة…
يختلف الرأي بخلاف برهان البسيّس، سواء من منظور ثوري/أخلاقي أو بشأن أدائه الإعلامي أو حتّى موقعه السياسي، لكنّ الرجل من «الخبث» (السياسي) الذي لا يجعله ينطق «عن هوى» أو هو الذي لا يدفع الكلمات، أو بالأحرى كلمة واحدة، دون أن يلوكها ما يكفي ليس قراءة لمعانيها، بل من باب تقدير فعلها وتبيّن (استباقًا) تأثيرها، ليكون السؤال (إذا) عن الدوافع التي تقف وراء هذا «التوصيف/الحكم» وهو يعلم أنّ «الاتّحاد العام التونسي للشغل» (مهما تكن المواقف من أدائه) يبقى أحد أهمّ «المحرّكات السياسيّة» (في البلاد) والقادر على التأثير (وبعمق) في أيّ مسار من المسارات العديدة التي تعيشها البلاد، سواء «القانون الأساسي لميزانيّة 2018» أو (بشكل أوسع) «المفاوضات الاجتماعيّة»، وحتّى الاستقرار الاجتماعي «الهشّ» في بلد تأتي قراءات (الواقع وللمستقبل) مفتوحة على جميع الاحتمالات.
ما الذي يدفع رجلا بدهاء برهان بسيّس إلى استفزاز هذا «الجيش» (كما قال)، والتلميح أنّ مكانه «داخل الثكنات» أوّلا، والتلميح (ثانية) بأنّ يكون «الاتحاد» عند الطلب عند الاستنفار القادم؟؟؟ أيّ مجرّد «عصا» في يد «جماعة برهان» وليس عصا عليهم بالضرورة
يصعب الحديث (موضوعيّا) عن قيام حلف بين «النداء» و«الاتّحاد» زمن «الترويكا»، بالمعنى الدقيق لكلمة «حلف»، لكن يمكن الجزم دون أدنى خوف أنّهما كانا يقفان ضدّ «ذات الجهة» (أيّ الترويكا) ويريدان لها السقوط، ويعملان من أجل الهدف ذاته، كلّ من موقعه. «النداء» بصفته «زعيم المعارضة» حينها، و«الاتّحاد» على اعتباره «الوجه الأعلى» داخل «الرباعي الراعي للحوار». نجحت «الشراكة» بين الطرفين، وسعى حسين العبّاسي الأمين العام السابق للاتّحاد (حينهما) لجعل «الحوار الوطني» من ضمن «المؤسّسات الدستوريّة»، فكان رفض «النداء» بل بالأحرى رفض «الباجي قائد السبسي» في عنف شديد، معتبرًا أنّ «الحوار الوطني» أدّى «مهمّة»، انتهت بسقوط «الحكومة الترويكا»….
إن كان من جانب صادق أو هو معبّر عن الحقيقة أو تفاصيل الحياة السياسيّة في البلاد ضمن كلام (سي) برهان بسيّس، فذلك يكمن في توصيف «خروج الاتحاد» ليس إلى معترك السياسة، بل (وهنا الخطورة) سيطرة الاتحاد ممارسة وصورة على «الحوار الوطني» وبروز حسين العبّاسي في صورة «قائدا للرباعي»، ومن ثمّة لعب الاتحاد ليس «دورًا سياسيّا» بل ما هو أخطر، أيّ «دور الراعي» الذي عليه حراسة «قطيع الأحزاب»، بما في ذلك قيادات هذه التشكيلات السياسيّة.
جاءت «جائزة نوبل للسلام» لتجعل لهذا «الراعي/الاتحاد» ما يشبه «القداسة الدوليّة» التي انبت أو بنت منطقها على «دونيّة المشهد السياسي» برمته بما في ذلك «الباجي/النداء» وكذلك «الغنوشي/النهضة»… لم يهضم الباجي هذا «التسلّق» فكان أن عاد بالاتحاد أو أعاده إلى «حجمه المحلّي والعادي» أي لاعب ضمن «قطيع اللاعبين» وليس بل يستحيل أن يقبله «راعيا» عليه…
ما الذي تغيّر ليعلن النداء على لسان برهان بسيّس «العداء/الحرب»، فيكون ردّ الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبّوبي بتلك الحدّة وذلك الاحتقار؟ يمكن الجزم أنّ المشهد السياسي في تونس منذ 14 جانفي لم يعرف الاستقرار، سواء على مستوى «جدليّة التفاعل الديمقراطي» حين جاءت «الديمقراطيّة» شكلا ولم تستقّر قناعة وممارسة، وكذلك لم تستقر بعد «التكتّلات السياسيّة» حين قامت تحالفات وانفضت ليس فقط في سرعة، بل مخلّفة عداوات شديدة وبغضاء أشدّ، إضافة (والأمر خطير) دخول «فيروس الفتنة» إلى داخل «الأحزاب» والنداء بشكل خاص.
حسابيّا، وعند قراءة موازين القوى القائمة في تونس بمعنى «الآن/هنا» يمكن الجزم أنّ النداء يلعب على «سمعة الباجي» (الرئاسيّة) أكثر من ارتكازه على «عمق شعبي» تآكل وتضاءل بالتأكيد منذ انتخابات 2014. أيضًا يعلم الباجي واليقين قائم أمام برهان باستحالة العود بالنداء إلى «زمن المجد» ومن ثمّة على «الباجي/النداء» البحث عن تحالفات لن تأتي «تكملة» لقوّة «النداء»، بل تكون «الجمهرة الأولى» لتشكيل سياسي جديد يمّكن سواء من دخول الانتخابات (في حال قيامها) أو التأثير من خلال «الوزن» في المعادلة السياسيّة القائمة.
أخطأ برهان بسيّس العنوان ومن ثمّة أساء نظم الخطاب، بل جاء يقول «السلام عليكم» فقال […..] (كلام بذيء)، حين وضع «الاتّحاد» في مرتبة «الجيش» المقّدّم في المعارك دون أهليّة الجلوس مع «الكبار». الخطأ ذاته في «النداء» ارتكبه عبد العزيز المزوغي (اليساري) حين خاطب فوزي اللومي (التجمعي)، طالبا منه أن يدفع المال ويدفع الناس للانتخاب، مع البقاء خارج «الأضواء» لأنّ «التجمعيين على وسخ» (والكلام للمزوغي) لا يجوز لهم الظهور في المشهد السياسي حينها… يشهد التاريخ أن تلك الليلة شكّلت «سقيفة» النداء، والطلاق البيّن داخل صفوف هذا التنظيم…