من يريد أن يفهم قيمة بلجيكا ومقامها في أوروبا، عليه أن يجري مسحًا «لغويّا» لما صار إليه استعمال لفظ «بروكسيل» (عاصمة البلاد)، حين تحوّلت إلى «عاصمة أوروبا» (بامتياز)، حيث تنتصب القيادة السياسية للاتحاد الأوروبي في هذه المدينة.
بروكسيل عاصمة أوروبا، والحديث عنها أصبح حديثًا عن «العاصمة الأوروبيّة» أكثر منه حديثًا عن «عاصمة دولة» (من دول الاتحاد). لذلك جاء الاعتداء الارهابي على المدينة، حاملاً لرموز تعلمها الجهة التي أعدّت الهجوم وعملت على تنفيذه، وكذلك (وهذا الأهمّ) تدركه الجهات الأوروبيّة، سواء منها المراجع السياسية أو الأمنيّة والعسكريّة.
هذا الهجوم يطرح أكثر من سؤال على أكثر من مستوى:
أوّلا: هل وصل الفشل الأوروبي (عندما صارت أوروبا واحدة) في اختراق هذه «الجماعات الارهابيّة»، خاصّة وأنّ «عناصر التنفيذ» هم من «أبناء أوروبا» أي من العناصر التي رأت النور وكبرت وترعرعت على أراضيها، والقاصي قبل الداني يعلم أنّ مخابرات الدول الأوروبيّة جميعها، تعمل وتشتغل على هذه «المجموعات» (البشريّة)، سواء على مستوى النفاذ إلى عمقها أو (وهنا السؤال) استغالها واستعمال عناصرها للتأثير على مجرى «الارهاب» على مدى الخارطة التي تعني أوروبا بكاملها.
ثانيا: لم يعد خافيا، وليس من الأسرار، أنّ العقل السياسي والأوروبي عمل (بكلّ جهد ودون هوادة) على «تصدير الإرهابيين» إلى سورية، من باب التخلّص من هذا «الداء» (أوّلا) وكذلك (وهذا لا يقلّ قيمة) «اسقاط النظام» بأقلّ كلفة ممكنة، سواء الكلفة العسكريّة أو السياسيّة أو الأمنيّة.
ثالثًا: كامل أوروبا، صارت تعلم أنّ عمليّة أخرى قادمة (أو على الأقل ممكنة) إثر العمليات التي شهدتها العاصمة الفرنسيّة خاصّة، وكذلك إثر التهديدات «المعلومة» (وغير المعلومة) التي صدرت عن هذه الجهات الارهابيّة.
من الأكيد وما لا يدع للشكّ، لم يعد العالم ينظر إلى العمليات الارهابية، في صورة الحالات المنفردة، بل في شكل عمل متواصل بدءا بما يجري في سورية مرورًا بالفضاء الأوروبي ونهاية بدول المغرب العربي، لكنّ المثير للشبهة وكذلك الشكّ وحتّى الريبة:
أوّلا: التعامل الإعلامي (من قبل القنوات النافذة على المستوى العالمي) على أنّ «الإرهاب» درجات، بل الضحايا ليسوا من طينة واحدة، يجعل الشكّ قائم، بل هو اليقين، بأنّ هذه «الجهات الاعلاميّة» تلعب بالإرهاب (أو تلعب داخل الارهاب) بما يخدم «المصلحة» (أيّ مصلحة؟؟؟) وليس من باب (كما تعلن) «محاربة الإرهاب».
ثانيا: لا تزال عديد الدول والمرجعيات السياسيّة والجهات الإعلاميّة، تتعامل مع «الجهة (الإرهابيّة) ذاتها» بسياسة «المكاييل» (وليس المكيالين)، حين تعامل جهات خليجيّة مثلا «جبهة النصرة» (في سورية مثلا) على أنّها «جهة مقبولة» بل «محترمة»، وتظهر أمام الامتدادات الفكريّة والعقديّة المتحالفة جهرًا ودون مواربة مع هذه الجهة، ما نراه من «تنديد» (شكليّ)…
إلى الماضي القريب وأشهر معدودات، أقرّ «لوران فابيوس» جهرًا وأمام الإعلام أنّ «جبهة النصرة» (من الثوّار)، ليكون السؤال (المطروح على الجانب الأوروبي):
أوّلا: ما هي الثوابت المعتمدة في تصنيف «الجماعات الارهابيّة» وما هي المحدّدات «الموضوعيّة» (افتراضًا) لفرز «الارهابي» عن غيره.
ثانيا: ما الذي يجعل السياسية الأوروبيّة، الجماعيّة أو القطريّة، تسقط في مثل ما نرى من تخبطّ وارتجال وحتّى عشوائيّة، أو ربّما صبيانيّة في التعامل مع «الارهاب»، حين «تبارك» (اليوم) ما «تلعن» (غدًا)؟؟؟
ثبت بالدلائل الماديّة القاطعة، أنّ أوروبا (الكيان السياسي كما الدول) «لعبت» بالإرهاب وكذلك «تلاعبت» به، بل اعتمدته وضخمته ومولته وحتّى سلحته جهرًا، خدمة لما رأت وقالت وأعلنت وصرخت أنّها مصالحها، ومن ثمّة (في تجاوز للألم الذي نراه في أوروبا) لا يمكن لأيّ مسؤول أوروبي أن «يستفيق» (مثل الزوج المخدوع) ويلعن «الإرهاب والارهابيين).
بعيدًا (كلّ البعد) عن «نظريّة المؤامرة» يمكن الجزم أنّ «جهات ما» اشتغلت على «شباب» (من أصول اسلاميّة) في أوروبا، وجعلته ينخرط في الإرهاب (فكرا وممارسة)، لكن (بالعقل والتدبير ودون «نظريّة المؤامرة») لا تخرج الحقيقة عن درجتين:
أوّلا: أنّ هذه «الجهات الأوروبيّة» أصبحت مثل «الأطرش في الزفّة»، يسرح الإرهاب ويمرح في حدائقها الخلفيّة دون رقيب أو حسيب.
ثانيا: أنّ هذه «الجهات الأوروبيّة» تعلم وتدري وترى وتبصر، بل وتسيطر على المعادلة وتستغلّها أحسن استغلال.
في هذه الحالة أو الأخرى، يمكن (بل يجب) طرح أكثر من سؤال على «الجهات الأوروبيّة» العاملة في مجال الارهاب، سواء الفشل الذريع في استباق هذه العمليّة وثانيا (بل الأهمّ) كيف نفذ الإرهاب وكيف ينفّذ عملياته بهذه السهولة وهذا اليسر.
مصيبة الارهاب، أنّ يحصر المشاهد في درجتين:
أوّلا: العمل المادي في أبعده الدمويّة المباشرة، وهنا يأتي دور الإعلام
ثانيا: العواطف بل الدموع والآلام البعيدة عن العقل والتدبير.
لا أحد في الإعلام والسياسية، يتعامل مع الإرهاب، خارج ثنائيّة «الصدمة» (الفرجويّة) وكذلك «التأثّر» (العاطفي»، ومن ثمّة يكون «التوظيف» ويكون «الابتزاز» (كما حصل في فرنسا مثلا)، حين يقود «السؤال عن الإرهاب» إلى تهمة «التعاطف مع الإرهاب»….
حين نقارب «الإرهاب» بين الفضاء العربي الإسلامي من جهة، في مقابل الفضاء الغربي المسيحي، نجد الثوابت ذاتها، ونجد الفوارق التالية:
أوّلا: سعي أوروبي (فرنسي خاصّة) إلى تحييد منظومة «حقوق الانسان»، بل اعتبارها جهرًا وعلانيّة، من «المعيقات الخطير» لمحاربة الارهاب. السعي ذاته قائم في الفضاء العربي الإسلامي، مع فارق أنّ الفضاء الغربي المسيحي يملك تراثًا وممارسة في المجال، في حين لا تزال المجتمعات العربيّة الاسلاميّة عند بدايات التنظيرات والسعي للممارسة.
ثانيا: يأتي «الإرهاب» فرصة للوحدة الوطنيّة والتغاضي عن الصراعات الشكليّة منها والسياسية وحتى الايديولوجيّة بين الأحزاب، في لا تزال (وستبقى) العمليات الارهابيّة في الفضاء العربي الاسلامي من محدّدات الفرز الداخلي ومن ثمّة الآلة الصانعة للقرار السياسي.
ثالثًا: يصرّ الفضاء الغربي المسيحي على بلورة «الذات» في مثل هذه الأحداث الارهابيّة، في تجاوز لكلّ الفوارق الاجتماعيّة، من باب التأكيد على أنّ «الإرهاب دخيل» في حين تأتي الفرصة (أي العمليّة الإرهابيّة) داخل الفضاء العربي الاسلامي، لمزيد من الأسئلة المؤلمة التي يريدها البعض (من المفكرين والمثقفين) فرصة للارتقاء فوق الجموع الجاهلة بأصول «صناعة الإرهاب».
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ أوروبا دخلت عصر «اللعب بالإرهاب» كما دخلت في السابق عصر «الفاشيّة»، مع التأكيد أنّ «الإرهاب» كما «الفاشيّة» فرصة لتناسي البطالة وتراجع الاقتصاد وغياب الأفق بل انسداده…