بقلم: عمّار الخال الجماعي
___________________________________________________________________________________________
ملاحظات قبل البدء:
يطرح الشاعر/الكاتب عمّار الخال الجماعي جملة من التساؤلات، تراوحت بين أسئلة معرفيّة بحتة وأخرى أقرب إلى الاستنكار والاحتجاج، معبّرا عن «همّ» عام، يرى «قضيّة الوثائق» أعمق من خصام/محاججة بين جهتين، لتكون هذه الوثائق وقود نار تنير ماض حسبته الجموع الجاهلة بأصول التأريخ المعاصر، صافيا، فإذا هو يحمل من الشوائب ما عكّر صفاء الذاكرة، ومن «البقع السوداء» ما يدعو إلى تسليط الأضواء على هذه الأسئلة، ليعلم الجميع، ويكون على دراية بما جرى وكان أوّلا، وثانيا دوافع ما تمّ والملابسات التي حفّت به، وثالثًا، التأثيرات التي لا تزال لهذه «الوثائق» على واقع الحال، ورابعًا كيفيّة الارتقاء إلى ذلك «الاستقلال» الأقرب إلى الحلم والقريب من صورة الكمال في الأذهان جميعها.
نصر الدين بن حديد.
_____________________________________________________________________________
ملاحظات أوّليّة :
فاجأ «ستّون مؤرّخا» الرّأي العام بإصدار بيان بعد اعلان رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة» عن حصول الهيئة على وثائق «لم تظهر من قبل» حول الاستقلال الوطني لتبدأ «حرب الوثائق» بين طرفين يدعيان امتلاك «الحقائق»! وقبل الخوض في هذا الأمر يهمّنا تقديم الملاحظات التالية :
أوّلا: لسنا في معرض دفاع عن «بن سدرين» لأننا لا نشخّصن هيئة دستوريّة فحسبنا مسارها وخيارها،
ثانيا: لسنا من أهل الإختصاص في التاريخ المعاصر ولكنّنا من بلد يهمّه التّاريخ كثيرا ويكفيه أنّه منجب «عبد الرحمان بن خلدون».
ثالثًا: يتنزّل مقالنا هذا في سياق دفع الجدل في مسألة تأخذ من التاريخ بطرف ومن السياسة بطرف أمتن وهذا يرفع من منسوب التلبيس والمغالطات.
البيان المتشنّج
من خلال العبارة يسهل على قارئ البيان تبيّن «تسرّع» الممضين عليه، فجاء أقرب إلى ردّ الفعل من أستاذة كان من المفروض اتزانهم وتجرّدهم وارتفاعهم عن اليومي. لكن من جملته الأولى «تصرّ رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة منذ تسلّمها مهامها، على التجنّي على التاريخ..» يكشف البيان توتّرا واضحا تجاه « بن سدرين» في شخصنة فجّة تهجم على الموقف ولا تسعى لتقييمه. وبات «التعالي الأكاديمي» أوضح من التدليل عليه. وقد أشار المؤرّخ الجليل عبد الجليل التميمي إلى هذه السمة في البيان واعتبره من «الهفوات». ويكفي أن نقرأ ما وسم به البيان بن سدرين (انتهزت رئيسة الهيئة أخيرا فرصة ..) وما دمغ به أصحابه (علنا نساهم من موقعنا هذا بكلّ تواضع وحياد ..) لتتضح الصورة : انتهازيّة مقابل تواضع ومخادعة مقابل تجرّد! هذه ديباجة البيان قبل تفصيل الحجج والردّ عليها.
النّقاط الخمسة
وردت في البيان نقاط خمسة هيّ بمثابة مطاعن على رئيسة الهيئة التي تذكر مرّة بالاسم ومرّة بالصفة. ويكون ذلك في أوّل كلّ نقطة في قصديّة واضحة ومكشوفة أكثر مما يجب. وهذه النقاط تراوح بين «استفزّت رئيسة الهيئة والبعض من أعضادها المؤرخين غير مرة…» و«تبدو رئيسة الهيئة مسكونة بهاجس الرياد…» و« لسنا في حاجة.. كي نتبين أنّ للسيدة سهام بن سدرين… جردة حساب مع الزعيم الحبيب بورقيبة,..». مثل هذه الجمل الابتدائية في البيان تؤكّد أنّ لأصحابه الحاملين صفة «مؤرّخ» موقفا سياسيّا لا من الهيئة فقط بل من داخل الصراع السياسي الدائر الآن بين دعاة إعادة قراءة التاريخ الوطني على ضوء الوثائق المستجدّة ودعاة «إبقاء الأمر على ما هو عليه». وهذا الانحياز لا يتلف الحقيقة التي هي غاية المؤرّخ الحقيقي فقط بل يزيد في مغالطات انصاف الحقائق التي يتهم بها البيان رئيسة الهيئة. إنّ المؤرّخ إذا لم يتجرّد من راهنيّة اليومي يفقد كلّ ما به يكون مؤرّخا ويجعلنا نصدّق أنّ التاريخ لا يكتبه إلاّ المنتصرون بمؤرخين مأجورين!
«غزوات» بن سدرين !
ورد في التفصيل الأوّل من البيان ذكر أحداث طعن بها مؤرخونا على بن سدرين فيما رأوه من جنس اختصاصهم: ما سمّوه «غزوة ارشيف الرئاسة» وتشويهها لصورة تونس «الناصعة» وتصريحها بـ«أنّ على المؤرخين إعادة كتابة التاريخ الوطني…» ومثل هؤلاء لا يؤمرون (كذا) وطلبها عروضا لتخزين الأرشيف السمعي البصري وهو مسّ من كفاءات الأرشيفيين التونسيين. ولئن بدا واضحا أنّ المسألة في أصلها لا تبدو «غيرة على التاريخ» بقدر ما هي غضبة على بن سدرين لأنها لم تستعن بهم ولم تأخذ مباركتهم ولم تراجعهم ولم تشغّلهم معها! إذا الردّ على هذه الأمور بسيط : فمن صميم دور الهيئة بيان الحقائق الخفيّة في الأرشيفات وأهمها أرشيف الرئاسة وما شوّه صورة البلد إلا تصدّي الحرس الرئاسي كمن يردّ غزوة ولولا أنّه معنيّ بهذه الأسرار لما صدّها! وهل يبدو طلب اعادة كتابة التاريخ «ذنبا» نحاسب عليه من يصرّح به؟! بالعكس تماما ذاك طلب ملحّ وكان على المؤرخين عوض اصدار البيانات دعم هذه الدعوة وتبنّيها إلاّ أن ينكشف مستور يعرفونه ويتعمدون اخفاءه! وإمّا أرشفة التسجيلات السمعية البصرية فقد صرحت بن سدرين أنّها مجرّد نسخة لحفظها من التلف من خلال الاستعانة بشركات مختصّة. لكن الصيد في الماء الآسن يعطيك نصف الحقيقة وهي أسوأ من مغالطة «الحقائق الكاذبة».
الوثائق المبتورة
يرى البيان أنّ ما جاءت به رئيسة الهيئة من «الوثائق» الجديدة ليست جديدة بل متداولة معروفة عندهم. إذن ما الذي جعلكم تصمتون عنها طيلة ستين سنة من «المغالطات وأنصاف الحقائق»؟! ولماذا لم يشر إليها ممضيان معروفان بالإسم وهما خالد عبيد وفيصل الشريف الحاضران باستمرار في القنوات التلفزيّة أم ذاك حضور «مكلّف بمهمّة»! إنّ المصداقيّة لا نتّخذها باتهام الآخرين بل بإتهام انفسنا قبل كلّ شيء!
«الاستقلال الوطني» نقطة استفهام كبرى
يؤكّد البيان بشكل حاسم أنّ الاستقلال الوطني هو أمر محسوم بـ«الأمر الواقع»! وأنّ الجلاء العسكري والزراعي قد تمّ بـ«ما يؤكده العارفون بخفايا الأمور»! بمثل هذه الصيغ «الغريبة» يقطع البيان في مسألة شائكة وخلافيّة. ولعلّه من المعلوم الآن أنّ لتونس وثيقتين : وثيقة الاستقلال الداخلي (133 صفحة ) ووثيقة الاستقلال النهائي (صفحة واحدة ) وهي بإمضاء الطاهر بنعمّار. ومعلوم أكثر أنّ كثيرا من المسائل ـ واغلبها يهمّ الثروات والتعاون الثقافي ـ لم يقع التطرق إليها في الوثيقة الثانية مما يجعلها نافذة. وازيد في القول أنّ وثيقة الاستقلال لم تشر إلى إلغاء «معاهدة الحماية 1881»… فأجيبونا يرحمكم الله!
هؤلاء الذين انتحلوا صفة مؤرّخ يلاعبون الحيّة ..ومن يلاعب الحيّة لا يسلم ولو بعد حين.