المغالطة الكبرى وعمليّة التحيّل السياسي، التي أقدمت عليها «منظومة بوتفليقة» منذ مرضه وعجزه عن ممارسة الدور المنوط به بحكم الدستور، تمثلت في إفهام العمق الشعبي وكذلك الواقعين السياسي الداخلي والخارجي، أنّ «البقاء على قيد الحياة» كاف لأنّ يكون «قادرًا على ممارسة السياسية».
من ذات الوقت، تحوّلت الممارسة السياسيّة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، من فعل ظاهر وممارسة جليّة، أمام الأعين وآلات التصوير وكذلك السياسيين والدبلوماسيين من الداخل والخارج، إلى «وصف» يحتاج أو هو يفتقد «الموصوف»، أيّ نطالع ونسمع أنّ بوتفليقة صرّح وأمر وأمضى وأسدى وعيّن وعزل، دون أن نشاهد بالعين أو نسمع بالأذن هذا التصريح وهذا الأمر وهذا الإمضاء وهذا التعيين أو هذا العزل، سوى كلمات مبهمة وهمهمات أشبه بمن يتهجّى نصّا لا يدرك كنهه، أو هي صور تريد إقناعنا بأنّ «الرجل» في «أفضل حال»!!!
انتقلت «منظومة بوتفليقة» من الحديث (كما هو حال كلّ رئيس) عن أنّه «الحالة المُثلى» لممارسة السياسة، إلى التأكيد على أنّ بوتفليقة (الشخص) يستوفي «الحدّ الأدنى» الضامن (وفق ذات المنطق) لممارسة سياسيّة «مقبولة» أو قابلة للتصريف السياسي في الداخل و(خصوصًا) في الخارج…
وفق منطق «التطويع» (هذا) الذي استوجب تدجين الخطاب واذلال الصورة، كان من بدّ من إخراج جديد (بالمفهوم المسرحي) لكلّ الأدوات القانونيّة والمراجع الدستوريّة والممارسات الفعليّة، في شكل يتوافق مع هذا «التطويع» ومنطق «الصورة» الجاهزة للاستهلاك والقابلة للتصريف سواء في الداخل أو في الخارج…
المتمكّن من أبجديات الفعل السياسيّة، يدرك أمرين غير قابلين للنقاش:
أوّلا: محدوديّة هذا «الاخراج المسرحي» وعدم قدرة «عمليّة التزوير» (هذه) على اقناع الجميع (في الداخل والخارج) إلى ما لا نهاية.
ثانيا: «الفعل المسرحي» (هذا) يحمل بذور فنائه في ذاته، أيّ أنّه (بالمفهوم العلمي المباشر) «بطاريّة غير قابلة للشحن»، استنفذت جلّ أو كامل طاقتها عند الترشّح للعهدة الرابعة، لتصل «منظومة بوتفليقة» أمام العهدة الخامسة دون رصيد قابل للشحن.
المفارقة الكبرى تتمثل في عجز عقل هذه «المنظومة» عن فهم الواقع الماثل أمامه، بل التعامل معه بعقلانيّة، حين عجزت عن إيجاد «بديل» من داخل «المنظومة»، ممّا يعني (وهنا جزء من المصيبة) أنّنا لسن أمام منظومة متماسكة، بل هي «شقوق» متناحرة، ليس فقط من أجل الفوز بأفضل قطعة من «كعكة السلطة»، بل العمل على اقصاء الأطراف الأخرى ضمن «المنظومة»، التي (من المفروض) أن تكون مثل «البناء المرصوص»… تنحية عبد المالك سلاّل عن إدارة الحملة الانتخابيّة، مثال على صراع «الأخوة الأعداء»…
لا أحد في الجزائر وخارجها، يتخيّل مجرّد الخيال (الأدبي أو العلمي) أن يترشّح عبد العزيز بوتفليقة ويفوز بعهدة خامسة، دون خسائر تعجز الجزائر عن تحملها، وترفض (ما يسمّى) «الشرعيّة الدوليّة» أن تقامر بالمضيّ فيها، لما للجزائر من دور/مكانة في المنطقة وفق زوايا القراءة والتحليل جميعها.
بمنطق العقل الراجح والتفكير السليم، سواء صدّقت هذه المنظومة ذاتها بالقدرة على المضيّ مثل «البلدوزر» أو أنّ كامل فعلها من باب الارتجال القائم على المقامرة، يمكن الجزم، أنّ عهد بوتفليقة قد ولّى دون رجعة وأنّ السؤال وبالتالي التفكير ومن ثمّة المفاوضات (الدائرة حاليا) يخصّ «شروط التسليم» ومغادرة مجال النفوذ، أساسًا بمغادرة البلاد دون رجعة.
يمكن الجزم أن القوّة الكبرى الفاعلة ضمن المجال السياسي الجزائري، عادت يوم 22 فيفري الماضي إلى الشعب وتأكّد الأمر يوم فاتح مارس الحالي، حين لم يعد من الممكن، سواء مغالطة هذا الشعب أو الكذب عليه، وأساسًا (وهذا الأهمّ) الوقوف في وجهه.
التاريخ في الجزائر راهنًا (بُعيد فاتح مارس) أشبه أو هو نسخة مطابقة للأًصل عمّا كان عند اندلاع الثورة المجيدة (بُعيد فاتح نوفمبر)، حين يمكن تشبيه الأمر بماء على منحدر، حين لا يمكن لأيّ سدّ أن يمنعه، والحال أنّ «منظومة بوتفليقة» تريد أن تجعله يرتفع إلى أعلى.