تفرّق جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، مثل عادته، بين أنصار قرار الطرد الذي أصاب تلميذة أطالت اللسان وذهبت في ذمّ أستاذها كما لم يفعل جرير في الفرزدق، مقابل «جمهور» هذه التلميذة التي جعل منها منذ إطلالتها على شاشات الهواتف «أيقونة» اختصرت الآمال المهدورة لجيل بأكمله والآلام المكبوتة لمن يرون أنفسهم في صورة ضحايا نظام تعليمي، عرف من التراجع (وفق العاملين فيه) ما يدفع إلى طرح معادلة «التربية» كما «التعليم»، موضع السؤال وحتّى المساءلة، حين أزاحت الليبراليّة الزاحفة «الحقوق» وعلى رأسها «الحقّ في التعليم» ليكون قوس قزح «الحريّات»، وما صارت التكنولوجيا الحديثة تمكّن من التحوّل (في سرعة البرق) من «نكرة» إلى «عود ثقاب» يشتعل إلى حين.
من السذاجة والتبسيط وحتّى عدم الأمانة المهنيّة (بالنسبة لوسائل الإعلام القائمة في البلاد) حصر المسألة بين «تلميذة أساءت الأدب» مقابل «منظومة تعليم مارست واجب الضبط».
من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ أبسط القواعد المؤسّسة للعلاقة الرابطة بين «المعلّم» (ضمن المعنى الوظيفي الواسع للكلمة) من جهة، و«طالب العلم» ضمن المسار الذي تتخذه هذه العلاقة، ينصّ على وجوب أن يحترم الثاني الأوّل، ليس فقط من باب الحفاظ على «ناموس» يقوم على «سلطة المعرفة» فقط، بل (وهنا الأساس) أنّ العلم يأتي أغلى ما يمكن أن ينقله بشرٌ إلى البشريّة، وبالتالي بقدر قداسة الفعل بقدر ما يكون للعلاقة من مقام.
وجب السؤال عن الأسباب التي جعلت «مخزون العنف اللفظي» هذا يتراكم داخل صدر هذه التلميذة… كما وجب السؤال عن الأسباب الذي جعلت منظومة التعليم في هذه البلاد، تتجاوز للأستاذ في بعده الفردي، لنصل إلى «الشبكة» بأكملها، انحلّت إلى هذه الدرجة….
ما تداولت الألسن من حديث عن نبوغ هذه التلميذة وما تملك من موهبة، دليل على نجاح منظومة «التعليم» في إتمام الواجب على أكمل وجه (نسبيا). في مقابل فشل منظومة «التربية» سواء داخل العائلة أو بين صفوف المدارس والمعاهد وأكثر من ذلك على صفحات مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، في افهام «ذريتنا» أنّ مقام «المعلّم» أرفع من أن نحوله، لأي سبب كان إلى «كيس ملاكمة» نفرغ عنده الكبت الواقر منذ دهور في دواخلنا…
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ العنف القابع في دواخل هذه التلميذة (وغيرها)، هو نتاج تراكم يراوح السنين، وأنّ قدرة الأساتذة على تحمّل «عنف التلاميذ» يتطلّب «صبر أيّوب» أو أكثر..
كما وجب الإشارة أنّ «العنف التلمذي» لم يعد مجرّد حالات شاذّة، تحفظ ولا يُقاس عليها، بل أصبحت بحسب ما يتمّ تداوله وبحجم العنف، الذي بلغ حدّ الاعتداء الجسدي، ظاهرة تستوجب الإشارة والدرس واستخلاص الدروس ومن ثمّة وضع أساليب العلاج.
لم يفهم النظام التعليمي أنّ «مقام المعلّم» لا تحفظه العصا بمفردها، ولا يكفله الزجر حصرًا، لأنّ العقاب لا يمثّل غاية ولا يشكّل ذلك «الحلّ السحري» أمام جيل يعاني من انسداد الأفق وما يرى من بطالة أصحاب الشهادات العليا، ما يدفع الكثير من أبنائنا إلى طرح أسئلة عن جدوى التعليم من أساسه.
خطأ المنظومة التربويّة ومن ورائها مناهج التعليم، أنّها حصرت «التعليم» في تسجيل الحضور المعلّم في الفصل وتأدية ساعات العمل، حصرًا، واعتبار أداء (هذا) «الواجب» أقصى ما هو مطلوب من جهاز التعليم.
لم تطرح وزارات التربية أبدًا مسألة التعليم خارج نظام «ملء ساعات العمل» ولم تصل به أبدًا إلى أنّ «الحقّ في التعليم» (وفق ما تنصّ عليه أرقى المراجع الانسانيّة) يستوجب قياس الأداء من زاوية ما صار إلى التلميذ من معرفة…
توسيعًا للرؤية نرى خللين على قدر كبير من الخطورة :
أولا : اعتبار التلميذ الفاشل (تربية أو تعليمًا) مسؤولا عن فشله، بما أنّ الوزارة أدّت دورها والمعلّم أتمّ ما هو مطلوب منه.
ثانيا : اعتبار فشل التلميذ في التحصيل (التربية كما التعليم) مسؤولية المنظومة التربويّة والتعليميّة بمفردها.
من الخللين، يبدو استقالة النظام التربوي والتعليمي خارج ما يرى لذاته من واجب أساسه تسجيل الحضور وتقديم الدروس. كذلك تبدو استقالة النظام الأسري كما المجتمعي، حين يتمّ حصر مسؤولية التربية التعليم في المدرسة…
من ذلك تنتفي صورة «الجلاّد مقابل الضحيّة» حين نقف أمام ضحيتين : معلّم يعاني من عنف تلاميذ يعانون بدورهم من العنف ذاته.
ما يؤسف في ما صاحب حكاية «التلميذة سليطة اللسان» مقابل «المعلّم الطاغوت» أنّ جمهور صفحات التواصل الاجتماعي اصطفّ (كعادته) أشبه بجماهير كرة القدم : دفاع أعمى ومستميت عن «قضيّة»، قائم على تشريع العنف اللفظي ما جعل وسائل الاعلام تحوّل «التلميذة والأستاذ» إلى مجرّد «فرجة» غايتها الإلهاء، في ترقبّ لحالة عنف قادمة، من الأفضل (وفق منطق الفرجة) أن يذهب أبعد، لأنّ الجمهور يعشق الذهاب نحو الأقصى…
تلخيص : مقاربة «العنف المدرسي» شبيهة بمقاربة «الإرهاب» : محاربة الفعل وعدم الالتفات إلى الجذور، مع تحويل المشهد بأكمله إلى مجرّد فرجة…