لم يفهم «الشيخان» لكبر السنّ وغلبة الطبع على التطبّع، ولم يفهم «النداء» لغلبة الغريزة على العقل والطمع على الأخلاق، كما لم تفهم «النهضة» من باب «بيع القرد لشاريه»، وبحثها «المرضي» عن «حبل نجاة» وسط دوّامة المتغيّرات الاقليميّة والدوليّة، لم يفهم هؤلاء ولن يفهموا أبدًا أنّ القوانين لا تغيّر الواقع بالضرورة، أو على الأقلّ بالشكل المطلوب، بل الأخطر أنّ جميع القوانين المسقطة منذ الاستقلال الداخلي (على الأقلّ)، أتت عكس ما هو مطلوب منها، أو على الأقل عكس ما هو معلن ومنطوق به، حين أدّت (مثلاً) «الحداثة القصرية» إلى ارتقاء تونس المكانة الأرفع على مستوى «تصدير الإرهاب»…
عند هذا المستوى لا يختلف الحبيب بورقيبة عن زين العابدين بن علي والباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي سوى عند التفاصيل المملّة. جميعهم دون استثناء يعاملون العمق الشعبي بمنطق الوصاية التي لا ترتقي بالفرد إلى مرتبة «المواطنة» (في حدّها الأدنى)…
من المضحكات المبكيات، التي تحيل على المسرح العبثي أو هو الفوضوي، أن يتزامن «كتاب العطاء» الذي قدّمه خالد شوكات إلى (صاحب العناية الالهيّة) الباجي قائد السبسي، مع مصادقة مجلس نوّاب الشعب، على «قانون المصالحة». ضمن الحالتين وفي توافق تامّ وتطابق مثير، هناك سعي للتغطية على حقيقة قائمة وعلى أمر واقع. «كتاب العطاء» أشبه بخرافات العجائز جاء من خلال «الاختلاق»، يغطي على «تفتّت» هذا الحزب الذي كان «صرحًا فهوى»، في حين جاء القانون من خلال «الاختلاق» هو الأخر، ليغطي على «هيئة الحقيقة والكرامة»..
صناعة الوهم في الحالتين لا يمكن أن يغطي على الحقيقة، وأخطر من ذلك العجز عن «إقناع» طبقة «الربط والحلّ»، أو على الأقل الجزء الفاعل على مستوى «الفاعليّة» السياسيّة، أنّ «النداء لا يزال قويّا»، وكذلك أن «المصالحة» أبقى وأصلح من «الحقيقة والكرامة»..
في الحالتين نحن نقف أمام مشهد «الملك العاري»، وعلى الطبقة السياسيّة، أو على الأقل ذات المصلحة أن تمدح «ملابس» هذا الملك، بل تبالغ في المدح وتزايد على بعضها، في صورة أشبه بتحطيم الأرقام القياسيّة… الكلّ يعلم ويدرك وعلى يقين أنّ «النداء» تفتّت وصار مجرّد «خيال»، كما كلّ يعلم أنّ «قانون المصالحة» جاء تلبية لمصالح طبقة من رجال الأعمال «الفاسدين»، أو بالتدقيق جزء منهم…
لا يأتي الخطر أو المصيبة على المستوى «الثوري/الأخلاقي»، أو حتّى «القانوني»، بل في أنّنا نقف (فعلا وحقيقة ودون مزاح) أمام طبقة سياسيّة دون وعي بالتاريخ ودون ادراك بما هي طبيعة الأشياء، حين لا رغبة للسيد خالد شوكات سوى «تسجيل هدف» ضمن الحرب (أو هي الحروب) الدائرة داخل النداء، أيّ تحصيل «ربح» على الأمد القصير، ولا غاية لرجال الأعمال الفاسدين من وراء الدفع بمثل هذا القانون، سوى تحصيل ربح سريع.
في الحالتين، لا قدرة لكتاب شوكات على تغيير الواقع (أي واقع النداء) ولا يقدر «قانون المصالحة» على أن يتحوّل إلى «عصا موسى»… نقف أمام حاجة سيكولوجيّة لتطمين الذات وكذلك (وهذا الأخطر) إلى «الإيهام» بالقوّة…
لا يمكن فصل «الكتاب» ولا «القانون» عن مجمل الصراعات الدائرة ضمن السلطة (بالمعنى الواسع للكلمة) أو ضمنها. خالد شوكات، ومن معه، يريد تحصيل مكان أفضل ومكانة أرقى، ضمن «النداء» من باب الاستعداد لما هو «قادم» من معارك أو هي حروب. في المقابل، لا يمكن فصل «قانون المصالحة» عن مسعى رجال الأعمال «فسخ الماضي» أوّلا، وكذلك وثانيا (والأهمّ) تحصيل مكان أفضل ومكانة أرقى ضمن لعبة «توزيع الكعكة» الاقتصاديّة ومن ورائها وبالموازاة مناطق النفوذ في البلاد.
رجوعًا وعودًا إلى تراكم الماضي منذ نشأة «دولة الاستقلال»، يمكن الجزم دون أدنى شكّ أن حالات «الملك العاري» جميعها (دون استثناء) أدّت إلى كوارث وإلى مصائب، ومن ثمّة لا حاجة إلى عرّاف يضرب الاقداح، للجزم أنّ «الكتاب» كما «القانون» يقودان البلاد إلى «التهلكة»…
توسيعًا لدائرة الرؤية وتعميقا لمجال البحث، وفي ارتقاء فوق البعد الراهن لهذا «الكتاب» وكذلك هذا «القانون»، يمكن الجزم بل هو اليقين، أنّ جميع حالات «الاسقاط» تحيل على «حالات مرضيّة»… خالد شوكات مصاب بداء الخوف على ذاته ومستقبله وخاصّة ذاك الرعب من أن تمحقه الطبقة السياسيّة. لذلك فعل المستحيل من أجل حرق المراحل. كذلك رجال الأعمال، تهزّهم عند النوم كوابيس السجون وما فعله يوسف الشاهد بشفيق جرّاية.
الحالة المرضيّة شاملة للطبقة السياسيّة برمتها. «إسلاميون» يشاهدون في منامهم (راشد الغنوشي على رأسهم) أبواب الزنزانات ومرارة المنافي وعلقم الشتات زمن «ما قبل 14 جانفي»، في حين يعيش «الطيف المقابل» أيّ التجمّع ومشتقاته (الباجي قائد السبسي على رأسهم) ذات الكابوس، مع فارق الزمن أيّ «ما بعد 14 جانفي»…
من باب الجزم، الخوف أو هو الرعب الذي يلفّ الطبقة السياسيّة برمتّها، قائم على حقيقة «عدم الثقة» المتفشية بين الأحزاب وداخلها، بل بين الأفراد، بدرجات متفاوتة. لذلك لا فائدة من الحقد على خالد شوكات أو وصمه بالنعوت المشينة، ولا فائدة من شيطنة رجال الأعمال الفاسدين. حين هذا وهؤلاء يمثلون «أنموذجًا» يشمل الطبقة السياسيّة برمتها ولا يستثنيها، في حين يسعى «البعض» من خلال «الشيطنة» إلى إبعاد الأضواء عن ذواتهم. الإعلام سلاحهم والملهاة أسلوبهم والمأساة طريقهم…
الخلاصة: في بلد صارت السياسية مثل كرة القدم، حين لا قدرة للعمق الشعبي المشاهدة أبعد من «جماليّة المراوغة» دون أدنى اهتمام أو تفكير في «نتيجة المباراة»، تكون المقارنة بين راشد الغنوشي و«ميسي» من جهة، والباجي قائد السبسي و«رونالدو»، معيبة في حقّ النجمين وليس «الشيخين»…