حين يصطفّ المراسلون وعددهم ثمانية (مثل العادة عند الأحداث الكُبرى) على شاشة قناة «الجزيرة»، وكذلك تتولّى قامات سياسيّة رفيعة (بقياس المناصب التي احتلّتها في دول ذات وزن كبير، مثل الولايات المتحدة الأمريكيّة) تفسير «الحرب الروسيّة على أوكرانيا» (وفق التعريف الرسمي لهذه الوسيلة الإعلامية)، تكتفي قناة «روسيا اليوم» (الذراع الإعلامي لجمهوريّة روسية الاتحاديّة) بملء الفراغات الإعلاميّة بين نشرات متناثرة، وكذلك بثّ برامج حواريّة أقلّ ما يُقال عنها أنّها «رتيبة»، وأساسًا ملء الفراغ الزمني عبر بثّ أشرطة تسجيليّة مملّة بفعل تكرار، يستحيل، بل من سابع المستحيلات، أن تجلب ما استطاعت القناة الإخباريّة القطريّة تحصيله.
لا تقف المقارنة عند هذا الحدّ. روسية الدولة العظمى، ذات الترسانة النووية الأضخم في العالم، والقدرة الصاروخيّة الخارقة للعادة، خاصّة بعد دخول صواريخ، ذات سرعة تفوق سرعة الصوت عديد المرّات الخدمة، قادرة على المناورة، متجاوزة أدوات الكشف القائمة حاليا لدى «أعداء روسيا» خاصّة. في مقابل قطر، التي تمتلك جيشا أقرب إلى «الزينة» منه إلى القدرة على النزال الحقيقي، رغم تكديس كميات ضخمة جدّا من الأسلحة ذات النوعيّة الممتازة، خاصّة لضحالة تعداد هذا الجيش، ليس فقط مقارنة بما تملك جمهوريّة روسية الاتحاديّة، بل حتّى بدول المنطقة القريبة مثل إيران وسورية، وحتّى اليمن، وكذلك (وهذا لا يقلّ أهميّة) وجود نسبة غالبة من غير القطريين داخل «هذا الجيش»، ممّا دفع ويدفع، وسيدفع أصحاب القرار إلى البحث دون كلل أو ملل، ودون خجل خاصّة، عن «حماية» (أجنبيّة) مدفوعة الأجر بكلّ تأكيد.
لا تقف المقارنة عند هذا الحدّ: مساحة جمهوريّة روسية الاتحادية، تساوي 17 مليون و125 ألف و191 كلم مربّع، في مقابل قطر التي لا تتجاوز مساحتها، 11 ألف 586 كلم مربّع. ممّا يعني أنّ مساحة روسية تساوي ما يزيد عن 1478 مرّة (مع بعض الكسور) مساحة بلد «علبة الكبريت» (هذه) على حدّ قول الرئيس المصري السابق محمّد حسني مبارك.
على المستوى الديمغرافي، لا يزيد من يسكنون هذه الإمارة (حسب إحصاء شهر ديسمبر/كانون الثاني 2020) عن مليونين و684 ألف 324 شخصًا، من بينهم 315 ألف و850 «مواطنًا» على خلاف البقية، أي الوافدين من جميع دول العالم، من مختلف الدرجات العلميّة والقدرات المهنيّة، الباحثين عن أجر مقابل جهد. جميعهم، يغادر البلد دون رجعة (مع استثناءات نادرة جدا) عند انقضاء عقد العمل. في المقابل يبلغ تعداد الروس 146 مليونا و170 ألف و015 مواطنًا، ممّا يعني أنّ سكان روسية يساوي 54 مرّة (مع بعض الكسور) جملة من يسكن قطر، في حين ترتفع النسبة قياسًا مع عدد «القطريين» (الأقحاح) إلى 462 مرّة (مع بعض الكسور).
المقارنة، مرّة أخرى، لا تقف عند هذا الحد : «إمارة قطر» استقلّت بتاريخ 3 سبتمبر/أيلول 1971 عن «تاج صاحبة الجلالة» وكادت أن تضمحلّ (مثل قطعة السكّر) داخل «فخّ» دولة الإمارات العربيّة المتحدة، ممّا جعل العداء (المتبادل) قاعدة العلاقة والتعامل مع هذا الجار «اللدود»، في حين أنّ دولة روسية الاتحادية تعود بجذورها (في الحدّ الأدنى) إلى الاتّحاد السوفيتي، الذي رغم النقائص التي أدّت إلى اضمحلاله، ملك أجهزة تحليل وقدرة علمية لا يُستهان بها، ومن ثمّة « الشروط الموضوعيّة» لوجود «نخبة» (بالمفهوم الافتراضي على الأقلّ) قادرة على التفكير العميق والاستشراف الاستراتيجي، لبناء أو هو بالأحرى، تجسيد ما كان حلم به «بطرس الأكبر» وما سعى من أجله «فلاديمير لينين» ويعمل «فلاديمير بوتين»، أي «روسية العظمى» القادرة على تأمين مكانة متميزة بين الأمم.
نجح نظام «ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي» في المحافظة على الإرث «المادّي» بمعنى شكل السلطة في بعدها الهرمي المباشر، وكذلك تثمين ما ورثت أو هي استأثرت به (هذه الدولة) من أسلحة استراتيجيّة، ومن ثمّة نجح «قيصر العصر» فلاديمير بوتين في تأمين مكانة عليا لبلده على مستوى القدرة العسكريّة،، لكنّه دون أن يملك أيّ وعي بما لهذه «الأسلحة الناعمة» من قوّة وما تملك من قدرة «تدميريّة» دون ضجيج ومن ثمّة الذهاب بالمتفرّج العربي (عندما نتخذ «الجزيرة» مثلا) من تحويل قطاعات واسعة وغير هيّنة من العمق العربي، من وعي إلى نقيضه، دون أن يحسّ المتفرّج بأيّ ذنب، بل هو يحمد هؤلاء الله صبحة وأصيلا ويشكره على أن جعل هذه «الدرّة» في طريقه لتملأ الدنيا نورًا وعلمًا بعد أنّ عمّ الجهل وتفشّت الفاحشة (الإعلاميّة).
كان أولى وأجدر لمن فكّر ولا يزال يعمل (في دولة روسية الاتحاديّة) على انتاج أسلحة تضمن التفوّق على الولايات المتحدة خاصّة وعلى توابعها في أوروبا والمحيطات، أن يعلم أو هو يدرك، بمفهوم الوعي الفاعل، أنّ الأوْلى، أو بالموازاة مع «هوس التسلّح» (هذا)، أن تحوز بلده وتمتلك «منظومة إعلاميّة» تؤدّي دور الجناح الإعلامي»، القادر أو بالأحرى الضامن لما يمكن أن نسميها «قدرة ردع إعلاميّة»،ـ توازي «قدرة الردع الاستراتيجية»، من قنابل نووية وصواريخ لا يمكن، لا ادراكها ولا مواجهتها.
ثبت بالدليل المادي القاطع، أنّ «فشل الذراع الإعلامي» يفتح ثغرة لا يمكن، لا الاستهانة بها أو سدّها، والأخطر من ذلك تشكّل «عقب أخيل» القادر على تأمين «ضربة» قوية، قادرة على انهاك «الدبّ الروسي»…
مهما ادّعت قناة «الجزيرة» من «حياد» أو «مهنية» أو حتّى اللجوء مثلما لا يملّ صحافيوها عن الترداد (دون ملل أو كلل) شعار «الرأي والرأي الآخر»، فالنفس المعادي والمناهض والرافض لغزو أوكرانيا، يأتي جليّا ومعلنًا، بل ومفضوحًا، لدى صحافييها، الذين صاروا يتجاوزون (في عدد غير هيّن) «التنسيب» المعمول به (بمفهوم التقديس أحيانًا)، ويردّدون عبر ضمير المتحدّث مثلما هو (على سبيل المثال والحصر) حال الصحفيّة وجد وقفي من واشنطن، الخطاب الأمريكي في حماسة قلّ نظيرها داخل صفوف الجيش الأمريكي ذاته….
الخطورة (بمعنى الأهميّة) ضمن واقع الحال الماثل في أوكرانيا، يتمثّل (بمفهوم كرة القدم) في ارتقاء هذه القناة من «الدوري الجهوي» إلى «الدوري الدولي»، أي من التخصّص في العمل والتغطية ضمن الواقع العربي والإسلامي، ولا دور لما هو خارج هذا الفضاء الممتد شرقا من أفغانستان شرقا إلى موريتانيا غربًا، إلاّ ما له علاقة بالبعد المذكور (العربي والإسلامي)، ليصير مكتب «الجزيرة» في كييف (عاصمة أوكرانيا) قلب «نجمة» جذورها في الدوحة وفروعها في كامل الفضاء الناطق بالعربية أوّلا، دون إغفال النسخة الإنجليزية، ومعهما أو ورائهما كامل الشبكة الورقية والالكترونية التي تجد الدعم بل التمويل من «دولة قطر».
مهما يكن الموقف من النظام القطري ومهما كانت القراءة للموقع الذي صارت إليه قناة «الجزيرة» أو موقفها من الأحداث التي غطتها هذه القناة منذ انطلاقتها بتاريخ فاتح ديسمبر 1996 إلى يوم الناس هذا، فالأكيد وما لا يقبل الجدل، يتمثّل في ما يلي :
أوّلا : استطاعت وسيلة الإعلام هذه، أن تحتّل مرتبة لا يمكن مناقشتها على مستوى القدرة على التأثير وطاقة النفاذ إلى «العقل العربي» ومن ثمّة إلى وعي هذا الفرد. دون قدرة «مثيلاتها»، اللواتي أتين إمّا تقليدا لها أو رغبة في منافستها، على الحدّ من تأثيرها (ما أمكن)، والحال أن من هذه القنوات من استثمر أو هو قادر على استثمار موازنة تساوي أو تفوق ما لقناة «الجزيرة» شرط تحقيق الفوز عليها والنزول بها عن موقع الريادة، أو في أقلّه (بلغة كرة القدم) «تقليص الفارق» في دوري القنوات العربيّة…
ثانيا : صعود «الجزيرة» للعب في «الدوري العالمي» يجعل منها، سواء أعلنت براءتها من «الدم الماثل على قميص أيّ جندي روسي» أو هي تبنّت وجها سياسيا عن قصد ودراية وخاصّة عن وعي بالمخاطر، طرفا في مواجهة يتحدّد على أساسها «مصير العالم» أو على الأقلّ، تنضج على قاعدتها موازين جديدة.
ثالثًا : سواء صدق البعض أو كذب، حين يعلن أنّ بلد النفط والغاز هذا، لا يعدو أن يكون سوى «مستعمرة/محميّة» أمريكية، لا حول لها ولا قوّة، بحكم قواعد «العمّ سام» العسكرية المنتصبة غير بعيدًا (بضع كيلومترات) عن مقرّ القناة في الدوحة، فالثابت وما لا يقبل الجدل أو أدنى نقاش، أن في داخل النظام الحاكم في هذه الدولة وكذلك ضمن مئات العاملين في «الجزيرة» من يرى الفرصة سانحة، للانتقام من «الدبّ الروسي» الذي ساند «النظام السوري» الذي عملت الدوحة على اسقاطه، بل هي سلّحت بعشرات مليارات الدولارات (بشهادة حمد بن جاسم آل ثاني) المعارضات في بلد الشامّ، لإتمام هذه المهمّة والذهاب بها إلى منتهاها. «الجزيرة» شكّلت رأس الحربة الإعلامية، في تقاطع وتكامل وتناغم وخاصّة في تنسيق مع الطرف التركي «المتورّط» في المستنقع السوري، الذي لا يزعجه بل يسرّه ويفرحه، كما يسرّ ويفرح قناة «الجزيرة» ومن يعملون فيه، سواء من يظهر على الشاشة أو خاصّة يعمل وراءها، رؤية هذا «الدبّ» يغرق في المستنقع الأوكراني، ومن ثمّة (وفق المنطق التركي – الأمريكي – القطري) يكون ملزما (رغم أنفه) على التخفيف من وجوده في الشرق الأوسط، ولِمَ لا، يقايض خروجا «مشرّفا» من أوكرانيا بالتفريط في سورية.
الخلاصة :
عندما نوسّع دائرة الرؤية ونتجاوز إجرائيا، الموقف (الشخصي أو أيديولوجي) من قناة «الجزيرة»، ونركّز على موقعها ضمن «الحرب الروسيّة على أوكرانيا»، لا نقاش ولا جدال، أنّ «علبة الكبريت» (هذه) تتولى دورًا جدّ متقدّم في تكوين وعي عربي معاد للروس ودولتهم ودورهم في أوكرانيا، ومن ثمة تضطلع قطر (القيادة والدولة والإعلام) بأداء «دور» الذراع الإعلامي الأمريكي (ضمن الواقع العربي) ضمن صراع واشنطن مع موسكو، خاصّة حين نوسّع الرؤية أخرى، وفق نظرية هنري كيسنجر الذي يرى كلّ دولة في صورة مربع على رقعة شطرنج، تقود خسارته إلى خسارة المربّع المحاذي، لنخلص إلى السؤال التالي :
هل قطر (القيادة والدولة والإعلام) على علم أو بالأحرى على وعي (بمعنى الإدراك الفعلي والفاعل) أنّ منطق اللعبة السياسية الذي جعل الجارة اللدود (الإمارات العربية المتحدة) تتلقى صواريخ الحوثيين ومسيراتهم القاتلة، سيتكرّر معهم (بطريقة أو بأخرى) مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ قدرات الروس أفضل ألف مرّة من قدرات الحوثيين، وكذلك، لن ترفع الولايات المتحدة الأمريكية اصبعًا (وفق عقيدتها الجديدة) حين صار الإجماع قائما (في واشنطن) بحرمة المخاطرة بأرواح الجنود الأمريكيين من أجل أي طرف غير أمريكي، سواء كان في أوروبا أو (أدنى مرتبة وفق الترتيب الأمريكي) من الشعوب غير «البيضاء».
عندما نوسّع دائرة التحليل أوسع من ذلك، يكون السؤال البديهي:
أيّهما أشدّ فعلا، قناة مثل «الجزيرة» تتولّى العمل ليلا ونهارًا ودون هوادة من أجل توجيه الوعي العربي في الاتجاه الذي تريده، مع تقدير أهمية هذا الجهد استراتيجيا، أم أعتى الصواريخ وأعلاها سرعة وأشدّها تدميرًا، يمثل اللجوء إليها قرارا على قدر كبير من الخطورة (بالمفهوم الاستراتيجي) في حين أنّ القنوات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لا تملّ ولا تكلّ عن صناعة رأي جديد وصياغة وعي مغاير، بل معاد كما كان الحال حيال النظام السوري وحاليا تجاه «روسية» الحالمة بالقيصريّة الجديدة؟؟؟
نصيحة بالمجان للقطريين وأقلام «الجزيرة» :
يقول الدكتور عزمي بشارة أحد أهم من يرسمون الخطوط العريضة للسياسة في أبعادها الاستراتيجيّة في قطر ما يلي : «في خضم التحوّلات الاستراتيجيّة الكبرى في العالم [مثلما ما يحدث في أوكرانيا] وعند اختلاط السبل وضبابيّة المشهد، وجب النظر إلى «الانتهازيين»، فَهُمْ الأقرب والأسرع خاصّة لمعرفة سبيل النجاة والنفاذ من الأزمة بأقلّ الخسائر أو بدونها»….
موقف عدوّكم اللدود، أي الإمارات العربيّة المتحدة، من «الحرب الروسيّة على أوكرانيا، هو (منزوع من المسوّغات «الأخلاقيّة») عين الصواب وسبيل النجاة…