يخطأ ويخالف الصواب، بل هو نقيضه، من يربط بين حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركية منذ فترة طويلة، وبين «المرجعيّة الإخوانيّة» على اعتبارها ليس فقط أيديولوجيّة، بل نمط حياة وأسلوب تصوّر للدنيا، وللتمكين في الأرض. هذا «الحزب الإسلامي التركي»، غايته ومرماه استعادة المجد التليد للإمبراطورية العثمانيّة والعود بها إلى ما استطاعت قيادة الحزب من عظمة، سبيلها في ذلك (وهنا مربط خيول الدنيا مجتمعة) التحالف مع «الطيف الاخواني» ضمن الفضاء العربي، أو بالأحرى احتواء هذا الطيف، الذي يرى في «النجاح التركي» منارة تنير درب التمكين، خاصّة أنّ هذه التنظيمات (الاخوانيّة) لم تصل إلى السلطة أو هي وصلت (حال تونس ومصر) ولم تعمّر (لسذاجة قاتلة) طويلا، أو كان وجودها شكليّا (حال التجربة المغربيّة)، أو انتهى الأمل في الحكم (حال التجربة السوريّة)…
لذلك لم تكن «الحالة الاخوانيّة» في سورية تهمّ العقل السياسي التركي لذاتها، بل شكّلت مجرّد وسيلة لتحقيق حلم (القائد) رجب الطيّب أردوغان بالصلاة في الجامع الأموي، مع ما يلزم لتحقيق هذا «الحلم/النبوءة» من تجييش يتجاوز «طيف الإخوان» إلى كامل «الألوان الجهاديّة»، وما (قد) ينتج عنه (افتراضًا في حال «النصر») من توسيع لهذا المجال التركي إلى «ولايات» لا تزال داخل «العقل السياسي التركي» تأتي أشبه بما هي «الأندلس» لدى عموم المسلمين…
وضعت قيادات «العدالة والتنمية» بيضاتها في سلّة واحدة، ضمن الواقع السوري، وحسبت (بمعنى اليقين) أنّ سقوط دمشق مسألة وقت (لن يطول) وكذلك مسألة «جهد» هي غير معنيّة به، حين تمّ جلب «الرجال» من أصقاع العالم، وتمّ جلب «المال» من دول الخليج، وكذلك «السلاح» من تجّار حرب (بعضهم أتراك)، لا يفوّتون مثل «ولائم الدمّ» هذه. دون أن ننسى انتعاش الاقتصاد التركي والفوائد المباشرة التي جناها هذا الاقتصاد، حين تحوّلت تركية إلى «قاعدة خلفيّة» لأغلب التنظيمات «المقاتلة» على التراب السوري أساسًا…
طالت الحرب في سورية وبان بالكاشف أنّ حسابات «الحقل/العقل التركي» بدأت تبتعد عن قراءة «البيدر السوري»، سواء بدخول حزب الله، أثناء معركة «القصير» وحسم الأمر في معركة «القصير» في وقت قصير جدّا، أو «ضياع» درّة الشام، أيّ حلب، وعودتها إلى مجال النظام. علمًا وأنّ النظام التركي أسّس طوال الحرب، لمنظومة اعلاميّة أشبه بشعارات جماهير كرة القدم في ملعب يغلي حماسًا:
أوّلا: لا مكان سوى للنصر، ومن يقول بما هو «التعادل» فما بالك بما هي «الهزيمة» لا يعدو سوى أن يكون «خائنًا»…
ثانيا: لا ضير (كما في كرة القدم) من تجاوز «قوانين اللعب» والقبول بما هو «دعم» (من قبل «جماعات جهاديّة») انقلبت (وهنا الفخّ) من «داعم» إلى «أصحاب الملعب» (السوري)…
ثالثًا: لم يمنع الواقع على الأرض من قيام «ممارسات بشعة» من قبل من يدعمهم النظام في أنقرة وترعاهم مخابراته، أو هي تلتزم الصمت حيالهم. «ممارسات بشعة» قامت «الثورة» (من منظور «أخلاقي») بسببها عندما تمّ اتهام «نظام دمشق» بممارستها.
مصيبة الأتراك أو هو مربط خيولهم، بل هو مقتلها، أنّ «المعادلة السوريّة» انقلبت أمامهم وبأيديهم وبإشراف منهم، بل هو التخطيط والتدبير، إلى «نقيض» مصالحهم في سورية خاصّة وفي منطقة الهلال الخصيب، ليلتئم «الفخّ» على «الفارس العثماني»، بين مساعدات من قبل الأمريكان إلى «أكراد سورية»، تصاعد كمّها وتحسّنت نوعيتها بمرور الأيّام، وبين (وهنا النقطة التي أفاضت كؤوس آل عثمان) «عمليّة انقلابيّة» تبيّن أنّ «الأمريكان» لا ينقصهم سوى الإعلان الرسمي (كما على الشاشات أثناء مباريات كأس العالم) أنّهم «الراعي الرسمي» لهذه المحاولة…
على قول القيادي في حركة النهضة علي العريض، عندما أعلن بخصوص الهجوم على السفارة الأمريكيّة أنّ «تمّ انتظار المهاجمين من الأمام، فجاؤوا من الخلف»، الاهتمام التركي (القيادات السياسيّة والعسكريّة والمخابرات) منصبّ على الوضع في «الهلال الخصيب»، في حين أنّ «الحبر الأعظم» لطائفة الكاثوليك (أيّ البابا) كان زار أرمينا، ووقف على حدود هذا البلد مع تركيا، ونظر إلى «مملكة آل عثمان» وذكّر بجرائم هذه «الامبراطوريّة» تجاه الأرمن، في سابقة تاريخيّة هي الثانية، بعد أن كان البابا «أوربان الثاني» فعل الفعل ذاته ذات يوم عندما دعا «المسيحيين» وملوكهم، لانقاذ قبر السيّد المسيح من بين أيادي «الكفّار» (المسلمين)…
يعلم العقل السياسي التركي بخصوص الاستفتاء على «استقلال كردستان» ما يلي:
أوّلا: أنّ أمد حياة هذه «الدولة» أقصر من أمد حياة نظيرتها (ما يسمّى) داعش.
ثانيا: هدف الاستقلال يتجاوز كردستان العراق، بل إنّ هذا الاستقلال لا يتجاوز دوره دور «الصاعق» ليكون الانفجار والصدى في كامل «المجال الحيوي» الكردي، الذي يقع غالبيته ضمن فضاء «الجمهوريّة التركيّة»
ثالثًا: القضاء على هذه «الدولة» أكيد وخنقها أسهل من محاربتها، لكنّ السؤال يخصّ (كما كان بالنسبة (لما يسمّى) «داعش») المدّة والكلفة.
يعلم أردوغان، أنّ العقل الغربي/المسيحي الذي أدار معركة «تأسيس الكيان الصهيوني» وكذلك «صناعة داعش» لا تهمّه «دولة الأكراد» في ذاتها أو «أمد حياتها»، بل جملة الفوائد التي سيتمّ تحصيلها من وراء عمليّة «التأسيس»، قبل الوصول إلى مرحلة «الوقوف على القدمين»، أيّ أنّ هذه «الدولة» مجرّد وسيلة ويستحيل أن تكون غاية يقاتل من أجلها الغرب، الذي لم يقاتل (بمعنى ارسال الجنود) إلى جانب الصهاينة…
أصعب من استدارة العقل التركي، من «شيطنة» الأسد ونظامه، تبرير الاستدارة ذاتها، أمام عمق «إسلامي/إخواني»، صدّق في الآن ذاته، أنّ رجب الطيّب أردوغان من «سبط» خليفة المسلمين السلطان «سليمان القانوني»، وأنّ هذا «البطل/المغوار» (أسوة بأجداده «الفاتحين») لا يتراجع عن وعد وهو منجز وعوده مهما كانت الظروف. هكذا يفكّر العقل الجمعي الإسلامي/الإخواني أو هو هكذا صنعت المخابرات التركيّة صورة أردوغان، ليكون السؤال (المرير بل هو العلقم) عن «الحيلة الفقهيّة» التي ستحوّل بشّار الأسد ونظامه، من «الشيطان الأكبر» إلى «حليف محتمل» (أوّل الأمر) ومن بعدها «حليف أكيد»، عندما تحين المعركة الفاصلة مع الأكراد، مثلما يستبطن العقل العثماني معارك سلاطينه الفاصلة سواء في آسيا الصغرى عند التأسيس أو في أوروبا عند الفتوحات؟؟؟
ختامًا:
العمق الإخواني العربي المريض، الذي ادّعى «التكتكة» (أي فعل التكتيك) حينًا والواقعيّة أحيانًا، من باب الرقص مع المنافسين/الأعداء، يأتي صورة قميئة عن واقع الأتراك والفخّ الذي سقطوا فيه. لتكتشف قيادات الإخوان، بدءا من تونس، مرورًا بمصر نهاية بكامل الطيف، أنّ الأتراك، سيكون همّهم الأوّل منصبّا ومنكبّا على «امبراطورتهم» (سواء التي في تاريخهم الذي انقضى أو خيالهم الجامح) دون أدنى اهتمام بما هو هذا «الرابط» الاخواني (المفترض)… فقط (وحصرًا) قد يأتي اليوم الذي يحتاج فيه «العثمانيون الجدد» (تحت راية الدفاع عن «الإسلام») إلى مقاتلين من «أقاليمهم» (تونس نموذجًا)… حينهما سيعيد التاريخ ذاته في نسخة راهنة، وسيصرخ أئمّة الجوامع من على منابرهم أنّ «الجهاد» من أجل «السلطان العثماني» (القائم بأمر الله) رجب الطيّب أردوغان، واجب، بل فرض من فرائض الدين، لا يستقيم «الإيمان» بدونه… هم ذاتهم الذي صاحوا بأنّ «الجهاد» ضدّ نظام الأسد واجب…
التاريخ لا ينسى ولا يظلم، وكذلك ولا يغفر ولا يرحم، فقط لا غير….