تقف القيادات العربيّة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط وكذلك الدول المجاورة، أمام المشهد السوري، مشدودة بين مصالحها المعلنة حينًا، وعواطفها الجياشة أحيانًا وكثيرًا من «الخوف» (المشترك) من تقسيم سورية الذي سيأتي على البقيّة، مثل الكسر في جبل جليد…
العرب عبر التاريخ، لا يفرّقون بين «كره الشماتة» الذي يُعمي البصيرة من ناحية، وتحقيق المصالح الاستراتيجيّة. الذين قذفوا مئات الآلاف من المقاتلين في سورية، ودفعوا عشرات مليارات الدولارات وعشرات الآلاف من أطنان الأسلحة، يقفون الآن في حيرة أمام انقلاب السحر على الساحر، حين اكتشفوا أمام بشاعة المشهد السوري الحالي، أنّهم كانوا يثقبون (من باب الشماتة) قاربًا هم يجلسون أعلاه، فقط…
نفس الإحساس يمارسه آخرون أمام ما يضرب تركية من إرهاب، نبرة الشماتة ذاتها، وصوت التشفّي ذاته، ليصيروا يومًا إلى البكاء (مرّة أخرى) «سقوط الأستانة» (التسمية القديمة لمدينة إستنبول)…
في صراعهم لا يدري العرب ومن جاورهم، عن جهل، أو يتغاضون عن خيانة، الفوارق بين الصراع الطبيعي والمعقول، وإن كان غير مشروع أحيانًا، من أجل المصالح الاستراتيجيّة، مقابل شماتة تعود على الفاعل قبل المفعول به، وتشفّ يمسّ صاحبه قبل المقصود بالفعل…
يتجاوز الصراع في سورية وما جاورها، منطق الرابح والخاسر، ليكون السؤال عمّن خسر أكثر من الأخرين، وهو قطعًا سيجذب معه الجميع إلى قعر الجحيم. استفاق الخليجيون ومن معهم من عربان المهانة على أنّ تقسيم تركية قادم ليقسّم ممالكهم الورقيّة. ممالك عاجزة عن تحمّل «صدمة» (واحدة) طالما جعل «الحاكم» من رفاهيّة شعبه «سجنًا» بأتمّ معنى الكلمة…
تركية التي وضعت جميع بيضاتها ضدّ النظام السوري وفاخرت بالأمر، بل جعلت منه ركيزة عمليّة تسويقيّة توالى فيها الأغبياء كما القابضون (المال) على صناعة الصورة، أفاقت بفعل العمليات الارهابيّة، لتعلم من خلال الدماء والآلام، أنّ من «ركب البحر»، قد (ونقول قد) يكون مصيره الغرق، مثل سورية، ربّما ليس بذات السيناريو بتفاصيله، بل في نسخة تتفق مع الواقع التركي وتتوافق مع مصالح من يخططون لذلك….
تُضرب تركية في أمرين أكيدين بفعل هذا الشلاّل من العمليات الإرهابيّة:
أوّلا: هيبة الدولة: حين صرّح سادة أنقرة، أنّهم ليس فقط قادرون على محاربة الإرهاب، بل (وهذا الأهمّ) هم الأقدر على «توجيه الضربات نحو الجهة الفاعلة» في عنف شديد، تجعل الردع فاعلا…
ثانيًا: الاقتصاد: توجهت جميع الضربات الإرهابيّة، بصفة مباشرة تقريبًا إلى قطاع السياحة، مؤكدة (وهذا فحوى الرسالة) أنّ تركية لم تعد ذلك البلد الآمن…
قطع الأرزاق جزء من قطع الأعناق:
لكلّ بلد في المنطقة «مقتل اقتصادي»، حيث تمّ ضرب المنطقة الصناعية في حلب أوّل الأمر بغية تركيع الاقتصاد السوري، وكما فعلت السعوديّة هبوطا بأسعار النفط من أجل تركيع الروس والإيرانيين ومعهم الجزائر وفنزويلا، ها هو الارهاب يحاول تركيع تركية، التي تعتمد السياحة رافعة مباشرة ومتميّزة لاقتصاد البلاد…
من سوء الحظّ أو مهازل التاريخ، بل هي المآسي أيضًا أنّ السعوديّة ومعها مشايخ النفط الذين كثيرا ما اعتمدوا سلاح الرفع في الانتاج والتخفيض في سعر البرميل سلاحًا (فعلوها مع صدّام)، في اتكال على مخزونهم المالي الهائل وقدرة المتوفر من الدخل على تلبية الحاجات، صاروا أحوج من غيرهم إلى ارتفاع سعر البرميل.
بين الهجمات الارهابيّة والمخطط الغربي الصهيوني الذي سيجعل من «العامل الكردي» سفيًا بل «خنجرًا مسمومًا» في ظهر دول المنطقة، تقف تركية مكلومة بين الرغبة في «الانتقام» (من جهة)، مقابل «جنون العظمة» الذي دفع أردوغان للقول أنّه صلاته قريبة في الجامع الأموي، لتكتشف أنّها أمام غير «الجماعات الارهابيّة» (القديمة)، بل جاء دورها، كما مرّ الدور السوري…
يدرك الأتراك بل هم على يقين أنّ وجودهم ضمن «الحلف الأطلسي» لن يدفع هذا الحلف لبذل جنوده من أجل المصلحة التركيّة، بل تعالت عديد الأصوات داخل الاتحاد الأوروبي ليس فقط رفضًا لهذا «الجار المسلم»، بل (وهنا الخطورة) أنّه صار «أكبر من حجمه الحقيقي»…
سواء جاء الطلب الأوروبي أو هي الرغبة، لتقزيم تركية، فإنّ «الصداع الكردي» يمثّل أهمّ الورقات القادرة على ازعاج «الرأس التركي»، بل لا شيء يمنع أوروبا من جعل هذا «الرجل المعافى» (ظاهرًا) يتحوّل (كما كان ذات مرّة) ذلك «الرجل المريض» الذي سمح مرضه لتقسيم الأوطان وتجزئتها….
القوى الفاعلة في المنطقة عاجزة عن قراءة المشهد بعيدًا عن ضغائن الماضي وإرث الدم الذي سال 5 سنوات في سورية دون الانقطاع. ستدفع القيادات التركيّة ثمن عنجهيّة طالت السماء، لكنّها مثل ما جدّ في سورية، ستجعل الدول الأخرى تدفع الفاتورة معها.
ذلك هو منطق التاريخ، الذي يثبت حين نتجاوز قراءات العواطف الجيّاشة والانتقام المتواصل والثأر الدائم، أنّ ما قتل الناس مثل غبائهم…
منطق الدول هو منطق العقل و حساب المصالح و مراعاة مصالح الاخرين أما الاهواء و الانتقام و الغرائز فمهلكة للدول …