ترمب : محاربة العالم في انتظار «الحرب الأهليّة»…

9 أبريل 2025

الصورة السائدة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تكاد تنحصر في التهديد والوعيد تجاه (من يسمّيهم) «أعداء الولايات المتّحدة الأمريكيّة»، وأنّ شعاره هو الذي اتخذه شرشبيل تجاه السنافر، أيّ «القضاء عليهم وإن كان أخر عمل في حياته»… مع فارق كبير وشديد الأهميّة: شرشبيل يعادي السنافر حصرًا، في حين أنّ ترمب يعادي العالم بأكمله…

لم يسبق لرئيس أمريكي أن قلب بهذا الشكل سلّم أعداء بلاده على مستوى الكون بأكمله. أساسا ضمن الفضاء الغربي، خاصّة أوروبا الغربيّة التي شكّلت، على المستوى الحضاري، امتدادا للولايات المتحدة وعمقا لها، حين وجب التذكير أنّ مشروع مارشال هو الذي «أنقذ» القارّة العجوز على المستوى الاقتصادي، والحلف الأطلسي هو الذي تكفّل بتوفير الحماية العسكريّة لها.

LIbertéصارت التباين أو هو الصراع على المستوى الاقتصادي هو الغالب، حين أعلن الرئيس ترمب صراحة ودون مواربة أنّ بلاده غير مستعدّة لتوفير الأمن والحماية بالمجان كما كانت تفعل منذ نهاية ما يسمّى الحرب الكونيّة الثانية. مع التذكير بالارتدادات الخطيرة لهذا القرار على الحرب الدائرة في أوكرانيا، مثلا…

تتجاوز «أزمة الرسوم الجمركيّة» التي تريد واشنطن فرضها على دول العالم، بعدها المالي/الاقتصادي المباشر أيّ تبادل السلع والخدمات وما هو حال الميزان التجاري بينهما، لتطرح بكلّ ثقلها الأزمة التي يمرّ بها الغرب بأكمله، بدءا بالمستوى السياسي حين لم تعد الانتخابات في الدول التي تدّعي (حصرًا) «الديمقراطية» دون غيرها، تفرز نخبة قادرة على توفير الطمأنينة لدافعي الضرائب، وكذلك على المستوى الاقتصادي حين حلّت «السنوات العجاف» بل صارت الأزمة تتعمّق من سنة إلى أخرى وتشتدّ ليصير اليقين قائمًا (لدى أعدادا متزايدة) بانهيار المنظومة بكاملها (قريبًا).

تراجعت وولّت تلك «البهجة» التي رافقت انهيار المعسكر الشرقي وانهيار جدار برلين، بقدرة الليبراليّة على توفير الديمقراطية مقرونة بالرخاء الاقتصادي. عولمة قامت بل تأصّلت على مبدأ رفع الحواجز مهما كانت ومن ثمّة فتح أسواق العالم جميعها دون استثناء على مصراعيها أمام الجميع… أيّ بالمختصر : العالم يصبح (وفق هذه النظريّة) سوقًا واحدة…

جاء ترمب لينفي، سواء على مستوى التنظير وأكثر من ذلك الممارسة، هذه «الليبرالية» المنفلتة من أيّ عقال، التي وجب التذكير أنّها شكّلت (في بعدها الفلسفي) العقيدة أو هي الروح التي تسري في جسد هذا الكيان منذ إعلان الولايات المتحدة الأمريكيّة عن وجودها.

بصريح العبارة، تبيّن بما لا يدع للشكّ أن خيار الديمقراطيات الغربيّة لما هي «الليبراليّة» بوجهها السياسي كما الاقتصادي، لم يتأسّس على قاعدة الإيمان اليقين بهذه الأيدولوجيّة، كما عمل الغرب على اقناع بقيّة العالم، بل لأنّها (أيّ الليبراليّة) توفّر أفضل فرصة للسيطرة على الكون بأكمله وإحكام القبضة على ثرواته…

وجود ترمب من أساسه على رأس أقوى الديمقراطيات الليبراليّة في الغرب، وخاصّة قراره بفرض رسوم جمركية على السلع الواردة على بلاده، دليل على أن الغرب بأكمله وعلى رأسه الولايات المتحدة سقط في الفخّ الذي نصبه للعالم بأكمله.

أكثر من ذلك: الصين الدولة المعارضة/المعادية وجوديّا للنظام الليبرالي الغربي في شقّه السياسي، تأتي المنتفع الأوّل بالشقّ الاقتصادي من هذه الليبرالية، بمعنى أنّها استطاعت (وهنا المصيبة) أن تفتكّ من الغرب «عصاه السحريّة»، والأخطر من ذلك أن تستعملها لإلحاق الهزيمة به.

هي عداوة تجاه الفلسفة التي قامت عليها بلاده، وأكثر من ذلك ألف مرّة، جمع من خلالها «الرئيس/رجل الأعمال» (هذا) ثروته المقدّرة بمليارات عديدة… إنّها العداوة للدم الساري في شرايين «الحضارة الأمريكيّة» التي قامت على أسس ليبراليّة لا تعرف حدودًا، سواء على المستوى السياسي وأكثر من ذلك وأهمّ، على المستوى الاقتصادي…

مهما تكن نوايا الرئيس الأمريكي ومن ورائه، ومهما كانت العزيمة التي تحدوها، لا يمكن لأيّ كان أن يقلب الاقتصاد الأمريكي على رأسه، أيّ الانتقال من الاقتصاد «المفتوح على مصراعيه» إلى اقتصاد يتخفّى خلف متاريس الرسوم الجمركيّة، في استماتة اعتبرها دونالد ترمب «السدّ الأخير» قبل الانهيار الذي ليس بعده قيامة…

وجب الغوص في تعريفات الداخل/الخارج لدى الأيديولوجيّة التي حملها الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض…

عداوة الداخل جليّة وواضحة، تجاه أطياف جمعتها «عولمة» تتجاوز السياسة كما الاقتصاد، لنراها تؤسّس داخل الولايات المتحدة الأمريكيّة كما خارجها، لنمط حضاري جديد، يقوم على نزع تام للحدود بين الدول والاقتصاديات، كما محو التعريفات «التقليديّة» للجنس. مع خاصيّة يعتبرها «السياديون» من أمثال الرئيس الأمريكي أخطر ما يكون: الولايات المتحدة لا تحظى بأيّ أولويّة أو تميّز أو مكانة وفق ما يراه تيّار العولمة، بل هي جزء (وإن كان الأكبر والأهمّ) من «القطيع» الذي عليه الخضوع، بل الخنوع…

دون السقوط في دوّامة «المؤامرة» ودون الغرق في مستنقعها، يتأكّد أنّ «الحرب الحقيقيّة» هي «الحرب الأهليّة» التي يستعدّ لها الجميع داخل الولايات المتحدة، بالعمل على كسب ما هو ممكن من «النقاط» في انتظار تسديد «الضربة القاضية» أو بالأحرى العمل على تفاديها…

كلّ «السينما» التي صنعها الرئيس الأمريكي بإعلانه «حرب الرسوم الجمركيّة» لا مطلب ولا غاية من ورائها سوى تحسين «القدرة القتاليّة» في الداخل، سواء من خلال التأسيس لصورة أمريكا (الجديدة) «الأقوى» من قبل، أو عبر الأموال المحصّلة من «إتاوات» الرسوم الجمركيّة

يعلم دونالد ترمب أن حربه مع العولمة وإن كان جزءها الأهمّ سيتمّ داخل الولايات المتحدّة، دون إغفال الجانب الكوني فيها. لذلك لا يتورّع الرئيس الأمريكي عن مساندة أعداء العولمة أينما كانوا، مثل ما جدّ مع زعيمة الجبهة الشعبيّة في فرنسا، التي دعمها بشدّة في معركتها مع السلطة التنفيذية في بلدها، واعتبرها «ضحيّة» وطالب في إصرار على «رفع الغبن عنها».

من ذلك تهدف الرسوم الجمركيّة إلى جرّ جميع الدول إلى مفاوضات ثنائيّة تفتكّ من خلال الولايات المتحدة، أو بالأحرى ينتزع عبرها دونالد ترمب امتيازات على المستوى الاقتصادي، ترفع من أسهمه لدى الداخل الأمريكي، وتجمع بين يديه أوسع عدد من أوراق المواجهة، التي ستكون «حربًا أهليّة» مع تداخل مع الخارج، أملته طبيعة الرهانات التي تتجاوز الولايات المتحدة، وإن كان هذا البلد هو المسرح الأهمّ لها…


اترك رد

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي