من منطوق ماركسي بحت، أيّ جدليّة التاريخ (الجامدة) يمكن الجزم دون أدنى نقاش أو شكّ، أن تونس تحكمها، أو تتحكمّ في مسارها السياسي، «نخبٌ» لم ترق بعد إلى الحدّ الأدنى قادر على جعلنا نراها في مقام «البرجوازيّة» التي عصفت بإقطاع القرون الوسطى في أوروبا، وأدخلت بلدانها في «مجال الدولة» مع ما يقتضي السياق من بنية ذهنيّة (جديدة) ومن انتاج معرفي (مبتكر) ومنتوج صناعي وزراعي (وفير)، ومن ثمّة «مشروع المجتمع» الذي نراه الآن في الغرب…
نحن نقف (على الأقلّ الوضع الراهن) أمام «صراع» من أجل السلطة، طبيعي وعاديّ، بل مطلوب في ماهيته، لكنّه وإن تلبّس «الديمقراطيّة» على مستوى «اللسان» (أيّ الخطاب المنطوق) وعلى مستوى «الأدوات» (الظاهرة)، إلاّ أنّه انحدر (أو بالأحرى لم يغادر) ذلك المستوى الاقطاعي (المقيت) القائم على طاعة «الشيخ/الزعيم» وتقديس مكانته، دون القدرة على فتح «كوّة» مهما كانت صغيرة، لطرح أسئلة، تعيد مساءلة «المسلّمات» التي تأسّست عليها «زعامة» (هذا) «الشيخ»، أو سطوته.
من الطبيعي أن يختصر الصراع من أجل السلطة وحولها، المسألة (أيّ مسألة السلطة وجدليّة الصراع حولها) في «عراك/توافق» الزعامات، حين جاءت الحاجة إلى وجود هذه «القامات» لدى «النخب» (الوسيطة) وكذلك «السواد الأعظم» شبيهة أو مقاربة لحاجة هذا «الشيخ» أو ذاك لبسط زعامته وتوسيع الطاعة أمامه وتحت قدميه، وأساسًا إضفاء هالة من «التقديس» عليها، كأنّ الأمر خيار بين «جنّة» (تحت قدميّه) مقابل «جهنّم» الطرد والإقصاء من هذا النعيم…
هي أزمة أو بالأحرى «هواء» يتنفّس الجميع دقائقه بين حاجة «الزعيم» لتوطيد «الملك» إلى الحاجة «الرعيّة» لتستظلّ بهذه «البركة»، لتتأسّس جدليّة «الولاء/البيعة» في أبعادها «الاقطاعيّة» المقيتة، سواء داخل التيّارات «التقليديّة»، أيّ الحزب الحاكم ومخلفاته ومشتقاته وامتداداته داخل (ما يسمّى) «الدولة» أو التيارات المتدثرة بالدين أو القائمة على أساس ربط «العقيدة» (الدينيّة) بما هي «الممارسة السياسيّة» على اعتبارها (مجرّد) «مدخل» لما هو «التمكين على الأرض»، وكذلك (وهذا لا يقلّ) أهميّة جميع «الكيانات» الحداثيّة، القائمة «منطوقا ولغة» وليس هويّة وتأصيلا، على فلسفات «القرن العشرين» من «حداثة» وكذلك «ديمقراطيّة» دون أن ننسى «العلمانيّة»…
الجميع يسبح داخل النهر ذاته، وإن كان في أماكن مختلفة، ليتخاطب الجميع (وهذا المذهل) بلغة متناقضة (ظاهرًا) لكنّها ذاتها على مستوى مرجعيات «قداسة» (الذات) في مقابل «تدنيس» (المقابل)، ذات المعاني والاسقاطات ذاتها…
الجميع يعيش حال من الانفصال المرضي الخطير بين «هواه وهويته الباطنة» (من جهة) في مقابل ما يقتضي «تمثل الدجل الديمقراطي» من «تقمّص مسرحي». نفهم حينها ونتفهمّ معنى أن يشتم يوسف الشاهد والدة المرزوقي بأشدّ النعوت انحطاطا ويطلّ علينا من «الغدّ» متلبّسا وقار المجلس (النيابي) وهو يحدّثنا عن وجوب «الوقوف لتونس»… نفهم كذلك أن يقول الغنوشي في جمع من القيادات السلفيّة أنّ «الجيش غير مضمون» ويطلع علينا من «الغدّ» يندّد بالإرهاب ويترحّم على أرواح شهداء المؤسّسة العسكريّة…
هذا وذاك مريض، أسوة بالطبقة السياسيّة بكاملها، حيث «المجهود الأكبر» يكمن في التأسيس لخطاب «الباطن» (أيّ شتم والدة المرزوقي) في مقابل خطاب «الظاهر» أيّ تمثّل النفس الديمقراطي في أشدّ تجلياتها.
يمكن الجزم من منطوق عقلاني بحت أنّ هذه النخب «الذكيّة» (في ظاهرها) عاجزة عن «تأمين الاستقرار» في بعده الاستراتيجي. كامل خطابها المنطوق والضمني، صار أشبه بحديث ربّة بيت لا همّ لها يزيد عن طعام يومها، أيّ أنّ ما نراه من «عبقريّة الشيخين» وكذلك «شطارة يوسف الشاهد» لا تعدو أن تكون بحثًا ضمن أفق ضيّق محدود وشديد الضيق، لذلك تأسّس أو قام الفعل السياسي في تونس على «الذكاء الغريزي» [راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي أنموذجًا]، الذي يبحث عن تصريفات آنيّة وحلول سريعة أشبه بذلك السعي لدى (أيّ ملاكم) لتحصيل النقاط دون رسم خطّة تغطي كامل الجولات…
كان بورقيبة وبن علي يمارسان سلطتهما وسطوتهما على أساس أنّهما يحتكران «الحكمة/القداسة» لذلك جاء كلّ منها قاسيا (أشبه بالحيوانات) في اقصاء «المنافسين» وكذلك «المتطلعين». نعيش راهنًا نفس السعي إلى «الإقصاء» فقط في غياب سطوة هذا أو ذاك، بل هي حرب دائمة ورحى يصفّي أشبه بما هي «داحس والغبراء» أو ربّما «البسوس»…
من المضحكات المبكيات، أن تتبادل الأطراف جميعها التهم ذاتها وإن كان بعبارات مرادفة ومعان جدّ متطابقة، ليكون الصراع أكثر من خلال «شتم المقابل» أكثر من «إظهار محاسن الذات»… يبرز ذلك على المنابر الاعلاميّة وصفحات التواصل الاجتماعي، التي تتحوّل إلى «ساحات عكاظ» (منقوصة جماليّة الشعر وبهاء لغته) أين يتحوّل شتم المقابل والانتقاص من قيمته الرياضة الأكثر رواجا بين مختلف روافد هذه الطبقة السياسيّة المريضة…
تفسير ذلك بسيط وظاهر: هناك خلط مرضي، لدى الجميع (ثوّار مقابل «الثورة المضادّة») بين مفهومين متناقضين: أيّ «البديل» مقابل «النقيض».. الشيء ذاته قام في عصور الجاهليّة وكذلك عصور الانحطاط وعلى شاشات القنوات التونسيّة ومنابرها الاعلامية راهنًا، أيّ بمعنى «شتم الطرف المقابل» والذهاب الحدّ الأقصى في «تدنيس» ذاته وفعله ومرجعته وكذلك بنيته السياسيّة وكياناته القائمة، الذي وجب أن نفهم بل نقتنع به في صورة «تقديس» للذات ومن ثمّة أهليتها للارتقاء إلى الكرسي الذي جلس عليه كلّ من بورقيبة وبن علي، أيّ «القدسيّة المطلقة»…
من العبث أو المضحك المبكي، ما نراه في البلاد وما تشهده تونس من «تصنيفات» بين «ثوّار» (أنقياء) يقابلون «أعداء الثورة» (المدنسين بالضرورة)، بل هو لا يعدو أن يكون سوى سعي أطراف عدّة للتماهي مع هذا التصنيف من داخل ذات «العقل الاقطاعي» المريض، أيّ ثنائيّة «المقدّس» (بذاته دون الحاجة لفعله) مقابل «المدنّس» (بالتوصيف دون الحاجة إلى اثبات)…
رجوعًا إلى الوقائع التاريخيّة، يمكن الجزم أنّ «الثورة» (لغة ومشروعًا وممارسة) لم تكن لدى «من دخلوا السلطة» (على الأقلّ) سوى «ماعون صنعة» (ايّ «عدّة شغل» بالتعبير المشرقي)، لذلك مريض ومعاق ذهنيّ، بل ربّما انتهازيّ ولصّ، (كلّ يختار ما يليق به من توصيف) من لا يزال يسعى للحفاظ على التقسيمات النمطيّة ذاتها (أيّ تقسيمات 17 ديسمبر ـ 14 جانفي)، أو يتعامل من خلالها، حين يمكن الجزم أنّ «أزلام اليوم» في جزء غير هيّن منهم هم «ثوّار الأمس»، الذين ولجوا «اللعبة السياسيّة» (القذرة) من باب «المتاجرة» بما يملكون من «رصيد ثوري»، ومن ثمّة خلطوا الأوراق وألغوا (وهنا المطلوب منهم لا غير) «الفرز الثوري» المطلوب، أو هو الضروري للتأسيس لأيّ مشروع «ثائر»…
المسألة أو السؤال المحوري، بل المصيري والحاسم، وحال البلاد، ينحدر إلى تفتيت معلن وتدمير بيّن، عن كيفيّة انقاذ «البلاد»، حين تتراوح هنا وهناك هذه العبارة، ليكون السؤال:
أوّلا: كيف السبيل لدخول معترك الواقع السياسي دون أدوات (الدولة العميقة ـ المال ـ الإعلام)، ومن ثمّة الظفر بالسبق والسيطرة على القرار؟؟؟
ثانيا: كيف السبيل لعدم الوقوع في «دوّامة» الحاضر، أيّ «مستنقع» السياسة الحالي، حين يمكن الجزم أنّ الكثير من «ثوّار الأمس» دخلوا اللعبة بنيّة صافية وعقيدة لا تشوبها شائبة، قبل أن يبتلع المستنقع أحلامهم وأخلاقهم قبل أجسادهم وجيوبهم؟؟؟
ثالثًا: كيف يمكن ممارسة التغيير ومحاربة الفساد (السياسي)، حين تأتي العملية أشبه بتغيير عجلة والسيارة تجري بسرعة جنونيّة، مع سائق يريد منعك؟؟؟
….الأجوبة في مقال قادم
استاذ نصر الدين لقد ابدعت في وصف الحالة بكثير من الدقة و انتظر مقالك التالي