مهما تكن العبارات المعتمدة، سواء التي لجأت إلى لهجة التخفيف والبحث عن المبرّرات أو التي انتهجت منطق التشديد حدّ التشفّي والشماتة، تبقى نسبة المشاركة في الدور الأوّل للانتخابات التشريعيّة التي دارت يوم 17 ديسمبر الفارط، مدعاة لطرح أسئلة تتكل إلى قراءة مجرّدة تغوص بكلّ تجرّد وراء الأسباب التي أدّت إلى مثل هذه النسبة الصادمة بكلّ المقاييس.
لا الطرف المنظّم اعترف بوجوب التأمّل في ما جدّ ولا الطرف المعارض قبل النزول من على ربوة «تصيّد الهفوات» والانطلاق بعيدًا عن مسار السخرية السوداء والتلذّذ المرضي في بعض الأحيان.
صفة جامعة بين المعسكرين : لا الأوّل توقّف لحظة أمام المشهد، وقرّر التفكير بصوت عال، ولا الثاني قبل التوقّف عن ادّعاء «قداسة» الشهيد الذي لا يتجاوز موقعه ومن ثمّة موقفه منطق «التنديد» دون حساب.
لا قيس سعيّد والمنظومة التي تقف إلى جانبه (بمختلف درجاتها) يملك قدرة فسخ يوم 17 ديسمبر الفارط من الذاكرة ومن ثمّة سحبه من بين أيادي المناوئين، ولا هذا الطرف المناوئ قادر على اختزال مشاكل البلد، بل المصائب المحيطة في هذه النسبة وجعل قيس سعيّد مسؤولا عنها بمفرده.
ما يغفل الطرفان عن طرحه يمكن طرحه عبر السؤال التالي : «هل التخلّص (بعصا سحريّة) من «الفئة المناوئة» كفيل بتحويل الوضع ممّا هو فيه إلى «جنّة» يحلو فيها العيش؟».
هل رحيل قيس سعيّد عن الحكم (افتراضًا)، بل واعترافه وتحمله جميع ما جدّ في البلاد من «أمور سلبيّة»، ومن ثمّة العود إلى نقطة ما قبل لحظة نطقه للكلمة الأولى من بيان تفعيل الفصل ثمانين، سيجعل (ما يُسمّى) «الشرعيّة» تتخلّص (دفعة واحدة) من جملة المآزق التي كانت تنغّص العيش، بين مجلس نوّاب الشعبي انقلب أشبه بالسيرك، واقتصاد متدهور وواقع سياسي سمته التنابز بالعبارات «السمينة»؟
هل رحيل طيف المعارضين والمناوئين وجميع من يرفضون قيس سعيّد ويرون في ما فعله مجرّد «انقلاب» سيحلّ مشاكل البلاد ويجعل نسبة المشاركة في الانتخابات ترتفع فجأة أو تذهب نحو مستوى مقبول؟
تشبّث كلّ طرف بأنّ «المشكل يكمن في وجود الطرف الأخر» سمة تجمع الطرفين، ومشتركة بين الجبهتين، بل الأخطر من ذلك، يعتبر هذا وذاك أنّ الهدف الإستراتيجي يكمن في «إقصاء» الطرف الخصم أو (على الأقلّ) تقليص وجوده إلى أدنى ما يمكن.
الأكيد وما لا يقبل التشكيك، يكمن في عجز أيّ من الطرفين على استبعاد الطرف المقابل أو على الأقلّ تحييده. لا قيس سعيّد قادر أو (بالأخصّ) مسموحا له دوليّا أو إقليميا خاصّة، بالدخول في «التجربة المصريّة» ولا التركيبة الأمنيّة والعسكريّة قابلة لأن تدخل في «مستنقع» لا أحد قادر على تخيّل تبعاته الكارثيّة.
في المقابل، غير ممكن للمعارضات مجتمعة أو متفرّقة، أن تذهب في أيّ سيناريو يعتمد «العنف» أو حتّى المبالغة في تجييش الشارع، ومن ثمّة الدفع به، وإن كان وفق منطق التدرّج نحو المواجهة وإن كانت «مدروسة» مع قوّات الأمن، لأنّ لا أحد (في مثل هذه الحالة كذلك) قادر على ضمان عدم الانزلاق «نحو المجهول»…
تتّفق عديد الرؤى الاقليميّة وكذلك الدوليّة، على الخشية من ترهّل النظام الذي لا يخدم المعارضة، مقابل عدم قدرة النظام (وفق ما تبيّن من نسبة المشاركة في الدور الانتخابات التشريعيّة) من الاستفادة من تراجع شعبيّة المعارضات وتفكّكها وخاصّة ما يشقّها من خلافات، تجعل بقاءها (الظاهر والشكلي) قابلا للانفراط عند أوّل منعطف حاسم، حين تعلم حركة النهضة مثلا أنّ لفظ «الخلاص» عند «شريك المرحلة» محمّد نجيب الشابي، يتراوح بين «التخلّص» من المناوئين وتطويع ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليصل (منفردًا) إلى قصر قرطاج.
مشكلة تونس حاليا تكمن في أنّ هذا الطرف أو ذاك، يحاول اقناع ذاته وافهام الداخل كما الخارج، أنّ «التخلّص من الطرف» المقابل شرط إلزامي للشروع في «الإصلاحات» الضروريّة التي وعد بها.
النهضة وتوابعها الاعلاميّة ومشتقاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، لا همّ لها سوى ترداد «العود إلى الشرعيّة» أيّ أنّ لا عمل ولا تحرّك نحو أيّ حلّ خارج «هذا الرجوع»، مقابل خطاب رئاسي لا يزال يرى، بل هو لم ينقطع عن رؤية «الشرّ المقيت» في طيف «المناوئين»، الذين يقفون «حجر عثرة» أمام استرداد الأموال المنهوبة مثلا.
تشترك النهضة كما منظومة قيس سعيّد في السقوط المتواصل نحو «خطاب شعبوي» يسترضي عمقه الشعبي، إلى درجة أنّ أيّ حديث خارج منطق «استرداد الكرامة المهدورة» وكذلك «الثأر» الذي يتلخّص في «التخلّص من الأعداء» مجلبة للسبّ والنعت بأقذر النعوت.
الخطر كلّ الخطر أنّ (ما يسمّى) «النخب» من الطرفين، سواء عن جهل أو انزلاقا نحو خطاب «الحميّة» (بمفهومه الجاهلي) ينحصر مُرادها في «اقصاء الطرف المقابل»، مع ما يعني ذلك (عن جهل أو تخطيط) من تعفين للوضع وجعله مجرّد برميل أو مخزن بارود، حين يسعى أكثر من طرف إلى اشعال عود الكبريت…