جولة بسيطة بين تصريحات الشخصيات السياسيّة النافذة ضمن المجال المعادي للرئيس قيس سعيّد، تُظهر حجما ضخمًا جدّا من الشماتة والتشفّي بمجرّد إعلان قرار صندوق النقد الدولي تأجيل الحسم في قرار إسناد قرض يقلّ بقليل عن ملياري دولار لتونس.
لا ينقص هذه الصورة سوى قرار مجلس الأمن بالإجماع، تحت الفصل السابع، إرسال أساطيل العالم، لتنزل جيوشها على سواحل ضاحية قرطاج، وتسيطر على القصر الرئاسي، ولِمَ لا إعدام الرئيس قيس سعيّد على الملأ وأمام عدسات الكاميرا، ومن ثمّة إعادة (ما يُسمّى) «الشرعيّة» إلى سالف حكمها.
هذا الكمّ الهائل من الحقد والشماتة وحتّى الذهاب نحو الأقصى في «تدنيس» الطرف المقابل، متجاوز للفروقات السياسيّة والمذاهب الأيديولوجيّة، والأخطر أنّه يختصر العلاقة مع من هو من المفترض أن يكون «خصمًا» (سياسيا)، في سعي دؤوب إلى الشيطنة التي بدورها تفتح الباب وتشرّع «الاجتثاث» في اقصى معانيه.
قاسم مشترك أخر يخترق الطبقة السياسيّة من أقصاها إلى أقصاها، يتمثّل في الهوس (المرضي) بتقسيم الزمن واختصاره في فترات بعينها دون غيرها. حركة النهضة تختصر «الشرّ المطلق» في الفترة الفاصلة بين ليلة 25 جويلية 2021 ليلا، عند نطق الرئيس قيس سعيّد للحرف الأوّل من الكلمة الأولى لخطاب «الانقلاب» (من جهة نظرهم)، ليستمرّ هذا «الشر» (المطبق) إلى حين عودة «الشرعيّة» إلى سالف حكمها.
على الجبهة المقابلة أنبنى خطاب ليلة 25 جويلية 2021 وقامت شرعيته على إيمان قطاعات غير هيّنة من العمق الشعبي بأنّ «الشرعيّة» صارت مختصرة في معارك صبيانيّة في البرلمان، ومن ثمّة قدّم قيس سعيّد ذاته، وأخطر من ذلك استدعى الرجل وعيا عامّا بما هي الرغبة ومن ورائها القدرة، وبالتالي الإنجاز، أوّلا بتحسين الوضع الاقتصادي والخروج (أوّلا وقبل كلّ شيء) بالقدرة الشرائيّة من سوء الحال الذي تردّت إليه، وثانيا (دون ترتيب) التأسيس لسلطة تشريعيّة تقطع مع «السيرك» الذي أثّث مجلس نوّاب الشعب، قبل تاريخ 25 جويلية 2021.
يقف الواقع السياسي التونسي أمام حالتي عدم وعي شديدتي الخطر :
أوّلا : عدم وعي حركة النهضة بقصور «نظريّة المؤامرة» عن تفسير السهولة التي لقيها قيس سعيّد عند انجاز «الانقلاب»، وبالتالي ما كان لهذا الرجل أن ينجح في مسعاه، في حال أسسّت «الشرعيّة» وأقامت (أو شرعت في إقامة) مشاريع اقتصاديّة، تستطيع اقناع العمق الشعبي بأنّ «لصبره حدود»، بمعنى أنّ من يمسكون السلطة، أصحاب قدرة على الانطلاق نحو الأحسن.
ثانيا : عدم وعي منظومة قيس سعيّد، حتّى قبل وصول الرجل إلى قصر قرطاج، أنّ العمق الشعبي لم يصوّت له في الدور الأوّل وكذلك في الدور الثاني، وأيضًا لم يخرج إلى الشارع، للتعبير عن فرحه بمجرّد تفعيل الفصل ثمانين، لشخصه المناقض للصورة التقليديّة للسياسي فقط، بل (وهنا الخطورة) لبلوغ اليأس من «شرعيّة ما بعد 14 جانفي 2011» أقصاه، جملة وتفصيلا ودون التعمّق في الفوارق القائمة بين النهضة ومشتقّات التجمّع الدستور الديمقراطي.
على الضفتين، نجد انتقائيّة جدّ خطيرة : لا النهضة قادرة على أن تلوك لبّانة أخرى غير «الشرعيّة» في جانبها البرلماني، ولا منظومة قيس سعيّد قادرة على اثبات أنّها «البديل» الفاعل والقادر على انجاز ما عجزت/رفضت النهضة الذهاب فيه، أيّ تحسين الوضع الاقتصادي.
فقط ثبت أنّنا أمام مشروعين نقيضين، لا الأوّل واع بما آل إليه من عجز بل هو الشلل، ولا الثاني واع بأنّ لعب دور «البديل» لا يقتصر على سيطرة على السلطة، بل انجاز ما عجز عنه سابقه.
لذلك، تشكّل انتخاب مجلس نوّاب الشعب ليوم 17 ديسمبر 2022، مجرّد فاصل «سريالي» في زمن متقطّع، حين تعجز منظومة قيس سعيّد عن الاستفادة منه، وتعجز كذلك منظومة (ما يُسمّى) «الشرعيّة» عن الاستفادة ممّا تراه فشلا.
لذلك يرتكب زعيم «جبهة الخلاص» المنصّب من قبل حركة النهضة، محمّد نجيب الشابّي، خطأ قاتلا، حين يعتبر أنّ الجموع المقاطعة لانتخاب 17 ديسمبر 2022، أقدمت على هذا القرار بناء على ندائه، أو (والأمر لا يقلّ خطورة) أن من يفقد الثقة في مشروع قيس سعيّد، يمكن احتسابه بصفة آليّة ضمن مناصري جبهة الخلاص، أيّ ممّن سيصوّت لصالحه في حال قامت الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانيها. حلم يراوده منذ أن قبل راشد الغنوشي أن يجعله وسادة airbag يتقّي بها «الشيخ التكتاك» من نوائب الدهر. ما يمكن التأكيد عليه، يكمن في ارتفاع حجم «الكافرين» بجمل الطبقة السياسيّة، على بكرة أبيها…
تساهم منظومة الإعلام في تونس، المتراوحة بين «الإعلام الظاهر» ووسائل التواصل الاجتماعي، عن غير وعي لدى البعض، وسعيا للاسترزاق لدى أخرين، في تضخيم أدنى الأحداث قيمة، حين صار تأجيل ملفّ تونس لدى صندوق النقد الدولي ليس فقط «خبر الموسم» بل الذي على أساسه يتحدّد مستقبل البلاد والعباد، وأنّ الأمر عبارة عن «ورقة حمراء» في وجه قيس سعيّد، أو أنّ صندوق النقد سيكون «شديد العقاب» مع هذا «الانقلابي».
مجرّد قراءة متأنية للتاريخ، تثبت أنّ (هذا) «الهوس» المحلّي بحرب البسوس بين «شرعيّة» فقدت ظلّها من جهة، مقابل «عمليّة إصلاح» أضاعت نبعها، لا يعدو أن يمثّل سوى ذلك «الفلكلور» الذي قد يجد «الغرب» بعض اللذة في مشاهدة تفاصيله، لكنّه لن يعير أيّ اهتمام (عند اتخاذ القرار) لا إلى «معلّقات» قيس سعيّد على جدران قصر قرطاج، ولا إلى «بكائيات» راشد الغنوشي على أطلال مجلس نوّاب الشعب…