حين نقف اللحظة الراهنة ونحبس الأنفاس ونغمض العيون ونفرغ الأدمغة من شحنة (هذا) «الحاضر» المليء بالفوضى (السياسيّة) والضوضاء (الإعلاميّة) وحتّى «التلوّث» (الأخلاقي) لنسأل ونبحث ونفتّش وحتّى ننقّب عن (أيّ) «رابط» بين هذا «الحاضر» من جهة، وبين «الشعارات» التي رفعها المتظاهرون حين خرجوا في فترة «النقاء الثوري»، أي الفترة الفاصلة بين 17 ديسمبر و14 جانفي؟؟؟
ماذا نجد؟؟؟
من الإجابة أو هي الإجابات (مهما اختلف الموقع وتباين الموقف) نجد (في أقصى الحالات تفاؤلا) أنّنا (بلغة الأمن ومنطق القضاء) أمام «تحويل» (وجهة)، أي أنّنا أمام ما يجري من صراع بين الأحزاب وخاصّة داخلها، لم نعد نرى لهذه «الشعارات» (المرفوعة في فترة 14/17) من وجود، بل تحوّل الهمّ الأوّل للفاعلين السياسيّين من «تحقيق الحدّ الأدنى من هذه المطالب» إلى ما هي حرب مباشرة أو بالوكالة لتوسيع المجال السياسي.
العمق الشعبي الذي خرج بين 17 ديسمبر و14 جانفي، لم يكن يحمل أيّ «هويّة حزبيّة» أو حتّى «مرجعيّة أيديولوجيّة»، ودليل ذلك أنّ شهداء فترة 17/14 لا يحملون أي هويّة سياسيّة وليس لأيّ كيان سياسي أو حزب أن يدّعي انتساب أيّ منهم إليه أو يدّعي أنّه يقف وراءه. خرجت الجموع كفرًا بالطغيان وحلمًا بالغد الأفضل وبحثًا (كمثل البشريّة جمعاء في كلّ العصور) عن «الكرامة» أوّلا ومن بعدها تأتي الوسائل الماديّة الكافلة للعيش الكريم من شغل للجميع ورخاء يشمل الكلّ وأمن دائم أو هو مستديم.
على مستوى الخطاب السياسي عامّة والحزبي على وجه الخصوص، يمكن الجزم أنّنا أمام فاعلين لم يشاركوا ولم يكونوا طرفًا في هذه «الثورة» وأكثر من ذلك لا يمثلون على المستوى الاستراتيجي أي دور في تحقيق أهداف هذه الثورة، بل هم سائرون بالأمر إلى «النقيض» أيّ الأسباب التي ستجعل «الثورة» (أي الخروج العنيف على (هذا) «الحاكم») أمرًا أكثر من حتمي…
تجاوزًا لنظريّة المؤامرة التي تأتي أحد التفاسير الممكنة للتاريخ وليس بالتأكيد التفسير الأوحد له، يمكن الجزم أنّ «برميل البارود» الذي امتلأ وفاض منذ أن سافر بن علي (مكرهًا) كان ولا يزال في حاجة إلى أيّ «عود ثقاب» بل إلى (مجرّد) «شرارة» (من أيّ مصدر كان). قد تأتي بها «الصدفة»، حين نؤمن بالصدفة وبالقضاء والقدر، أو تأتي بها «يد» تقصد ماذا تفعل وتدرك ما تأتي من دورٍ…
الثورة هي المقام الأوّل أمل، وحين نقضي على الأمل نقضي على الثورة، مهما كانت النوايا ومهما جاءت المبرّرات لذلك. حملت «الثورة» (في تونس) أو هي فتحت الأبواب مشرّعة عن «أفضل الأحلام وأكثرها ورديّة». فشلت النخب التي صعدت إلى المنابر يوم 14 عشيّة في تحقيق «الحدّ الأدنى» لبقاء هذا الحلم مشتعلاً، وكذلك فشلت في فهم ما يطلبه (هذا) العمق الشعبي وما تريده هذه الجماهير التي لا تحسن (بالضرورة) الحديث بلغة أهل السياسة…
من الرؤية الشاملة والأمل الأوسع يوم 14 جانفي 2011، انحصرت الرؤية وضاق الأمل ليصل راهنًا حدّ التهديد الجدّي والفعل بعودة الناس إلى الشارع مجدّدًا…
غبيّ وساذج ومغفّل (دون استثناء) من يتخيّل (لحظة واحدة) أنّ «العود إلى الشارع»، أي عود المبادرة إلى الشارع، ستكون نسخة طبق الأصل عن نسخة «14/17» أو حتّى قريبة منها، بل يمكن الجزم (بمعنى اليقين) أنّ «الخروج» (الفعلي) القادم، سيكون أكثر عنفًا (بكثير) وأشدّ قسوة بل من الأكيد أن المعاملة بين (هذا) «الحشد» في مقابل «قوّات النظام» سيتّسم بالعنف الشديد والقسوة الشديدة أيضًا…
إلى حين الساعة لا يزال خيط رفيع يربط (هذا) الحشد بالطبقة السياسيّة، ولا تزال (هذه) الجماهير تعقد (بعض) «الخير» في (هذه) «النخب» التي لم تفهم ولم تع (بعد إلى حدّ الساعة) أنّ «الديمقراطيّة» في بعدها العددي أيّ الاقتراع والانتخاب، لا يمكن أن تكون «الحجّة» (بمفردها) على هذه «الجموع» التي لن تؤمن بهذه «الديمقراطيّة» حتّى ترى ثمارها، أيّ «الكرامة» أوّلا ومن بعدها الوسائل الماديّة للعيش الكريم.
نحن أمام حالتين متناقضتين، بل لا ينتميان إلى العالم (الفكري) ذاته:
أوّلا: عمق شعبي، تحرّكه «المصلحة» في أبعادها المتعدّدة من «كرامة» ومن بعدها بقيّة ما يصنع الحياة الكريمة
ثانيا: نخبة سياسيّة، تؤمن (منذ اللحظات الأولى لفراغ أعلى هرم السلطة عشيّة 14 جانفي) أنّها «الأوْلى» بالقيادة، وأنّ على هذا «العمق الشعبي» أن يمارس الطاعة لها تحت شعار «الثورة» ومن بعدها «الديمقراطيّة» كما مارسها زمن بن علي….
من ذلك، يمكن الجزم أنّ «أحداث القصرين» (مهما كانت الجهة التي أشعلت الشرارة) لا يمكن أن تجد لها حلاّ في بعض المسكّنات أو الوعود أو حتّى «الرشاوى الاجتماعيّة» من تشغيل لعدد مهما كان من العاطلين، لأن المطلوب ليس «المقاربة الكميّة»، بل (وهنا الأهمّ) «المقاربة الشاملة والرؤية الاستراتيجيّة»، أي بلغة أخرى: «مشروع مجتمعي جديد» ومنوال تنمية يقطع مع السائد…
لعبة الصراع السياسي (الفوقي) بين الأحزاب أو داخلها، يمثل «ملهاة» حقيقيّة أمام هذا الانفصال التدريجي والمتدرّج للحبل السرّي الذي يربطها بالعمق الشعبي، ومن ثمّة لا تزال هذه النخب وهذه الأحزاب (الحاكمة والمعارضة) تؤمن بدونيّة العمق الشعبي أوّلا، وثانيا بقدرته على «اللعب» به عند المحطات الكبرى والانتخابات أساسًا، وثالثًا أنّ ليس لهذا العمق من خيار سوى أن يختار بين هذا وذاك من هذه الكيانات السياسيّة…
ارتكب بن علي الخطأ ذاته، وكان يحسب أنّ قدرته على ضبط «الخوارج» (على نظامه) تأتي «علمًا صحيحًا» وأنّ هذا العمق الشعبي بلغ من التدجين ما يجعله يطمئن لقرون وأن هذه النخب بين رشوة وقسوة عاجزة عن الإضرار، بل هي (في أجزاء كبيرة منها) تأتي (عن علم ودراية أو جهل) الرديف الأوّل لوجوده على كرسيّ الحكم….
ها قد جاءتك حالة ثالثة – انظر أسفل المقال- جامعة بين المتناقضين الذين ذكرتها، لو توليها بعض الدراسة و التحليل، فهي علی مقاس النظرية الثالثة أری …
“حذاري من الإرهاب وأخواته
ومن أبنائه
و بناته”
على المسؤولين أن يكونوا العين اللاقطة للمطالب المشروعة وأن بضعوا أنفسهم مكان المعطلين والذين من التنمية والاستثمار محرومين وأن ينزلوا التمييز الإيجابي للجهات المحرومة الذي ظل حبرا على ورق في الدستور غير متبوع بقوانين أو حتى قرارات أولية باعتبار أنتجربتنا المتواضعة في التأسيس تثبت أن مسار سن القوانين أو حتى تنقيحها طويل لأنها يمر من مجلس الوزراء للمصادقة عليه إذا كانت الحكومة هي صاحبة المبادرة التشريعية أو من رئاسة الجمهورية إلى النواب للمناقشة في اللجان ثم في الجلسات العامة.أما عن مشاريع القوانين التي من الممكن ان تتبناها إحدى الكتل أو حتى عشرة نواب فمنها قد يئسنا.
كل ذلك دون دخول في النوايا التي من الممكن أن تقول أن لا وجود لنية أو إرادة سياسية لهذا التفعيل لأنه حسب رأيي النية إذا تربعت في قلب عرش المسؤول لا بد أن تكون “مقرونة” ليس بالمعنى “سباقاتي” بالعمل أو لا تكون.فحسن نوايا السياسيين لم يعد يسد ولو حتى الرمق.
وقبل تشدق أصحاب السلطة على ثقافة العمل وغرس روح المبادرة أقول لهم ” إن فاقد الشيء لا يعطيه” لقد مثلت سياسة الحكام بعد سنة من الانتخابات سياسة “رجال المطافئ ” وسياسة “كل نهار أو قسمو” والمتابع الدقيق لخطابات قيادي الأحزاب الأربعة الحاكمة يرى أنهم هم أنفسهم اعترفوا بذلك على الملإ في منابر إعلامية متلفزة في أكثر من مناسبة والتاريخ على هذا شهيد.
فها هي الحكومات المتعاقبة بعد الثورة ظلت تمول المؤسسات العمومية الخاسرة على حساب المجموعة الوطنية وبأموال الشعب بدل خلق روح المنافسة وبدل بث روح العمل والكد والجهد في الإدارات العمومية التي تعج بالمجمدين وأصبحت دقائق العمل المعدودات في الوظيفة العمومية يوميا استثناء والاتكال هو القاعدة.
والحقيقة أنهم لم يرتقوا حتى إلى الوصول إلى سياسة الإطفاء فكم من رجل مطافئ يدفع حياته قربانا من أجل فرد يحترق.
فمن احترق هنا غير الشعب المسكين ؟ فكم من منتحر وكم من بالإرهاب منضم وملتحق وكم من غريق لقي حتفه كان بصدد “الحرقان” وكم من محترق وكم….وكم…..؟
ينتابني استغراب شديد إزاء أقوال بدائية لبعض الذين يهرفون بما لا يعرفون ويحاولون بخطابهم المتشنج قبر الأمل وهم دائما يحرضون وعن البطالة يتحدثون وفي كل واد يخوضون متصدرين المشاهد الإعلامية في نعيق البوم قائلين “إن البطالة زادت وتفاقمت”. فأي سذاجة هذه في الطرح وفي التشخيص؟ فهل أن الجامعات توقفت بسكتة قلبة مفاجئة عن النبض ولم يعد دبيب الحياة فيها يسري؟
أقول لكل هؤلاء المتحذلقين الذين يؤججون الأوضاع إن كلامكم بديهي بل هو البداهة نفسها .كما أدعوهم إلى استيعاب القاعدة الشرعية التي تقول”إن توضيح الواضحات من الفاضحات”.فمن الطبيعي جدا عندما يتخرج الآلاف سنويا من الجامعات التونسية أو حتى من معاهد ومدارس التكوين المهني أن يزيد عدد المطالبين بالشغل و بالتالي عدد المعطلين.
أقول لكل هؤلاء إن الشغل حق لكل تونسي وتونسية مهما اختلف انتماؤه لأي طبقة اجتماعية كانت فهذا الحق ليس حكرا على الفقراء.فمن حق أيضا من ولد وفي فيه ملعقة ذهب أن يشتغل فهذا واجب الدولة على المواطن حتى يحس بكيانه وبذاته وحتى يدخل معترك الحياة ويستفيد من قدراته ومن معارفه التي لقنته إياه الدولة مجانا أطفالنا ووطننا.
فتونس موردها الوحيد و الأوحد والأساسي القوي الذي بهر العالم هو العنصر البشري العبقري المدير لاختلافاته و الذي أطاح بنظام ديكتاتوري في هبة شعبية تضامنية من هول مفاجأتها وسرعتها لم تترك المجال للتدخل الخارجي ليخربها.
وهذا في الحقيقة مرده القدر والرب الحامي لتونس أولا ثم التفاف الشعب التونسي يدا واحدة تعطشا للحرية والديمقراطية ثانيا.
وعلى من لم تنصفهم نتائج الانتخابات أن يصبروا ويصبروا غيرهم من المواطنين و أن يتغلبوا على طبيعة المخلوق الإنسان الذي خلق هلوعا حتى لا يتسببوا بقصد أو غير قصد في انتكاس ثورتنا فتونس هي اللتي تصدر السلم لا أن تستورد العنف فيصبحون حال بلادنا كحال ليبيا لا قدر الله أو غيرها من البلدان التي لا تزال تشق طريقها نحو الديمقراطية .
وعلى كل الأحزاب سواء الحاكمة او من صنفت نفسها على كونها معارضة أن تتداعى إلى طاول ة الحوار وأن تنأى عن دعوات التنافي والإقصاء فتكرس بذلك سياسة الحوار والتواصل كخط استراتيجي و ليس فقط حوارا وقت الأزمات و مناسباتيا.
على كل أفراد الشعب وعلى الجمعيات أن تنصهر في مطالب المحرومين والمهمشين عبر حماياتهم في مسيرات احتجاجية راقية وعبر توثيق الفاسدين والمندسين من ملثمين جبناء لم يكشفوا عن وجوههم وسراق غادرين لا يمكنهم بفعلاتهم الشنيعة إلا أن يضيفوا معطلين جددا عن العمل وهنا أقول لهم إن قطع الأرزاق يعتبر قطعا للأعناق .
إن لسان هذه الشرذمة الضالة والشاذة – يقول “علي و على أعدائي”- لذا وجب على القضاء سجنها و محاسبتها .
إن الحقد والغليان الذي يجتاحها سيحرم أصحاب المغازات المسروقة والمخربة و المدمرة من تشغيل المعطلين وقد يدفع بهم إلى تنقيص العاملين بعد الخسارة المادية التي سيتكبدونها.
كنت ناديت في مقالات سابقة منذ أشهر إلى ضرورة أن ينخرط اتحاد الشغل في مساندة المعطلين باعتبارهم عمال مفترضين منتظرين لكن لم تكن هناك آذان مصغية.الحمد لله الآن ها قد ثاب إلى رشده وها قد انخرط في الدفاع عن مكتسبات الديمقراطية وممتلكات الدولة عبر بلاغه.
و أريد أن أحيي قوات الأمن التي برهنت على أنها قوات جمهورية بامتياز فلقد أجلت مطالبها ونزلت بقلب رجل واحد لحماية المتظاهرين فأعطت درسا لكل جيوش العالم ولكل القوات الأمنية في مختلف الأصقاع في مرة ثانية ولم تنحدر إلى رغبات من يريدون خلق البون الشاسع وحفر هوة بين مؤسسات الدولة والشعب.
و على اتحاد الصناعة والتجارة أن يحث رجال الأعمال المنضوين تحته على الانخراط أكثر فأكثر في الاستثمار في المناطق الداخلية بصفة ثورية و فورية لخلق دبيب حياة وتشغيل المعطلين لأن عاصفة الإرهاب و أخواته لو قدر الله إن أتت على ثورتنا فلن يسلم من تداعيتها لا المؤجر ولا الأجير ولا الكبير ولا الصغير ولا حتى الذي “يدبي” على الحصير ومن في بطن والدته جنين.
نعم أخوات الإرهاب فما معنى الفوضى وما معنى الجريمة المنظمة وما معنى السرقات والعنف والانقضاض على أمني بصدد حماية المتظاهرين و الممتلكات العامة والخاصة إلى درجة إزهاق روحه؟ ألا ينم كل ذلك على نقمة كبيرة لدى فئة مأجورة مسلوبة الإحساس بالوطنية و بالرأفة الإنسانية؟
كل العالم يشاهد هذه الفئات المأجورة التي تحاول تشويه الربيع العربي.والغريب أن يصرح أحد نواب الشعب وهو مهدي بن غربية على إحدى القنوات التلفزية الخاصة تصريحا لا يمكن أن أطلق عليه أفضل من هذا المثل”كف أو كعبة حلوة”.فمن جهة نراه يعترف بالاحتجاجات و الاعتصامات ومن جهة أخرى نراه يجزم في لغة دغمائية بأن الانتخابات لو أعيدت لأفرزت نتائج مختلفة كلية عن المشهد الحالي والحال أن الشعوب ليس بالسهولة أو السرعة تغيير خياراتها الكبرى .
ثم إن فرضية إنجاز انتخابات مبكرة بعد سنة واحدة من نتائج انتخابات تشريعية ورئاسية شهد لها العالم بنزاهة صندوقها كان بالأجدر أن لا تدور بخلده وهو مؤسس من مؤسسي الدستور لأن ذلك يعني خرقا أهوج للدستور ولا يعني إلا ترهل الفكر السياسي لدى بعض من يعتبرون أنفسهم نخبا .
الخوف كل الخوف أن لا يكتفي الإرهاب بأخواته لينجب لنا أبناءه و بناته ليمس من وحدة الشعب التونسي ويحاول إرباك الدولة لا قدر الله.
سنية تومية