يروي مؤرخ ليبي، شهد صغيرا شنق شيخ المجاهدين عمر المختار، أنّ حبل المشنقة انقطع في المرّة الأولى، وسقط عمر المختار أرضا، وعند النهوض قال جملة أصبحت مثلا: «يهلكها دولة حبالها تالفة…»…
تونس أيضًا «حبالها تالفة»، يمكن الجزم بذلك، حين نرى تواتر الحوادث وتعددّها. أخطر من المسألة في بعدها الكمّي عدم الوعي بالمسألة في بعدها الرمزي، حين نرى اكتفاء بالتقريع والسخرية، بل تضخيم بعض الأخطاء والذهاب بأخرى إلى النسيان أو هو الدفاع عنها وحتّى التبرير، وربّما جعلها من جملة الحسنات التي وجب ذكرها.
أخطأت النائب عن حركة النهضة يمينة الزغلامي، عندما أقامت الفاتحة على روح المجاهدة الجزائريّة جميلة بوحيرد. ما في ذلك شكّ. هذا مجلس نوّاب الشعب لدولة ذات سيادة، يمثّل الشعب التونسي، وليس جلسة نسائيّة في منزل لتجاذب أطراف الحديث، كان الواجب أن يتمّ الاتصال بسفارة تونس في الجزائر العاصمة أو بوكالة الأنباء الجزائريّة (على موقعها على الانترنت) لتبيّن الحقيقة ومن ثمّة اتخاذ الموقف الذي يمليه الضمير والعلاقات مع الجزائر.
لا يمكن أن ترقى هذه «الهفوة» إلى «الحادث الدبلوماسي»، لكن حوادث أخرى شهدها البلد، أدّت إلى توتّر العلاقة مع جهات تربطها بتونس أو تشترك معها في علاقات لا يمكن نكرانها أو نكران تأثيرها على الواقع التونسي (السياسي والاقتصادي وحتّى الاجتماعي).
الطيّب البكوش، وزير الخارجيّة يصرّ على مسألة «تأشيرة الجهاد» ضمن وثيقة طلب التأشيرة لتركية، في حين أنّ سفر التونسيين إلى تركية لا يستوجب مثل هذا الترخيص، وكذلك لا أحد يمكن أن يتخيّل الدولة التركيّة بمثل هذه «السذاجة» أو قل هذا «الغباء»…
حوادث أخرى عديدة، سببها الأوّل والأساسي وربّما الوحيد أنّ الفرد يبحث عن البروز (مهما تكن النوايا) على حساب «العمل الجماعي»، أي على حساب «المؤسّسة». كان على (للاّ) يمينة الزغلامي أن تتريّث وتسأل وتكلّف من في مجلس نوّاب الشعب باستجلاء حقيقة الأمر، وكان على (سي) الطيّب البكّوش أن يراجع «دروسه» ولا يعوّل (وهو الجامعي) على «الثقافة العامّة» والارتجال في الإجابة.
مفهوم «المؤسّسة» غائب أو في أفضل الحالات لا يمثّل المحرّك الأوّل أو الأساسي للممارسة السياسيّة. الدولة والسياسة وعي بالجماعة وإدراك لتوزيع الأدوار. من التأكيد أنّ النبوغ جيّد والاسراع مطلوب، لكن ليس على حساب صورة المسؤول (في بعده الرسمي) وليس على حساب (صورة) المؤسّسة، وليس على حساب (وهنا الأخطر) صورة الدولة وهيبتها.
فقط قليل من التواضع وكثير من التريّث والقبول بمشاركة الأخرين في العمل أو في صناعة القرار. ليس إلاّ…
تونس أو السياسيون في تونس (يمينًا ويسارًا) يعيشون هاجس الذات وأزمة ووجود وخوف (أو هو الرعب) من مغادرة الموقع السياسي، لذلك يكون التسرّع ويكون الارتجال، سواء من باب إثبات هذه «المهارة الفرديّة» وتجذيرها في عقول الآخرين، أو اثبات عدم الحاجة للأخرين، أو (وهنا الأخطر ربّما) عدم الثقة في الآخرين.
مهما يكن الأمر، وفي مثل هذه الحوادث جميعها، وجب دراسة الخطأ والعمل على عدم تكراره. على أيّ مسؤول في هذه الدولة ألاّ يتّخذ قرارا دون التثبّت من حقيقة الأمر، وعلى أيّ مسؤول ألاّ يتعامل مع الاعلام سوى من خانة المعرفة بالأمر، وإن لزم الأمر الاستعانة بقصاصات أو وريقات، أو (لمن أراد أن ينفخ في صورته) يحفظ المعلومات عن ظهر قلب، كما هي المحفوظات في المدرسة الابتدائيّة…
الوعي بخطورة الاعلام غائب عن العقول، لذلك نرى المنابر الاعلاميّة تحوّلت إلى «فرجة» بأتمّ معنى الكلمة، وصار السياسي يسعى إلى أيّ منبر (مع استثناءات قليلة) دون التفكير في ما قد يقول أو هو مطلوب منه القول، ودون التفكير في اعداد الأرقام والمعلومات وما يلزم لإنارة الرأي العام، حين تكون مهمّة الإعلام في الأصل الإنارة وليس التهريج.
المضحك أو المبكي، أنّ سياسيون يعتمدون مواقع التواصل الاجتماعي بابًا للمعلومة، في حين أنّ هذه المواقع هي أقرب إلى «سلّة المهملات»، نجد فيها الغثّ الذي لا يمكن قبوله، كما نجد فيه المعرفة والمعلومات الجيّدة.
الحكمة لا تقضي بقبول كلّ شيء أو مقاطعة هذه المواقع، بل اعتمادها مصدرًا لمعرفة المزاج العام، وثانيا (والأهمّ) وسيلة (رخيصة الكلفة) لتمرير المعلومة إلى من يهمّه الأمر.
ثقافة المعلومة، غائبة عن الغالبيّة العظمى من السياسيين. ليس المطلوب أن يتحوّل كلّ سياسي إلى دكتور في علم الصحافة أو جهبذ بن عبقر في أصول الاتصال. فقط مطلوب منه أن يعي أبجديات هذه العلوم، وإن لزم الأمر متابعة دورات خاصّة أو دروس خصوصيّة، وثانيا اللجوء إلى أهل الاختصاص، حين تزخر تونس بكفاءات نادرة، تتوّزع بين الهجرة والبطالة.
هو التواضع الذي ينتج عنه القبول بل الاقبال على العمل الجماعي. يمينة الزغلامي والطيبّ البكّوش، وسمير بالطيّب الذي طرح سؤالا على رئيس الوزراء في عهده حمّادي الجبالي بناء على معلومة مغلوطة استقاها من مواقع التواصل الاجتماعي، وغيرهم كثير، يستحقون برنامج تأهيل شامل، وربّما امتحانات تصير قبل الترشّح للتشريعيات أو الرئاسيات، أو تكون عند الانتداب في أي مركز يكون من مهام صاحبه اتخاذ مثل هذه المعلومات أو التعامل مع وسائل الاعلام…
الأمر لا يعني خطأ ثمّ التراجع عنه، مع ما يلزم من سخرية مقيتة أو استهزاء مرضي، إنّه يعني صورة الدولة لدى مواطنيها كما لدى سكّان الكرة الأرضيّة، كما هو حال ياسين ابراهيم حين أراد أن يمارس القفز فوق الكلمات، أثناء ربط مباشر مع قناة «بي بي سي» (بُعيد عمليّة سوسة)، فصرّح في قمّة الحماسة والفخر (أو النشوة) أنّ «تونس في حرب ضدّ الإرهاب، وعلى الطرف الآخر تقديم المساعدة»، فكان الردّ من الصحفي :«إن كنتم في حرب، فلماذا تدعون لزيارة بلدكم»… انتهى الربط، وكانت الفضيحة، لأنّ ياسين ابراهيم خلط بين اتقانه اللغة الانكليزيّة وبين ما يلزم من «معرفة» لمقابلة قناة بمثل هذه القيمة، وقيمة تأثيرها…
الأمر لا يحتاج إلى إعادة اكتشاف البارود، فقط الجلوس مع لفيف من الخبراء، وإن كان عبر الرسائل الالكترونيّة، لمعرفة جميع الأسئلة الممكنة ومن ثمّة اعداد الأجوبة الأفضل… فقط، عندما يجعل ياسين ابراهيم ثقافته فوق الدولة، تكون المصيبة، وكانت الطامّة الكبرى…
تحتاج تونس إلى مؤدّب، يعيد تأهيل طبقة سياسيّة بكاملها… إلاّ من رحم ربّك…
37 تعليقات
تعقيبات: millet聽(manufacturer)
تعقيبات: oakley sunglasses store