يتفّق أنصار ما يسمّى «الشرعيّة» مع من يقفون إلى جانب ما يرون أنّها «حركة تصحيح» في النظر إلى الانتخابات التشريعيّة التي ستدور يوم 17 ديسمبر القادم، من زاوية «الجزم» دون حدود. الطرف الأوّل يراها «شرّا مطلقا»، في حين يرى فيها خصومهم «خيرًا عميمًا».
من ذلك، مهما تكن نسبة المشاركة ومهما تكن النتائج في بُعدها الكمّي ومهما تكن أسماء الفائزين، لا الطرف الأوّل سيعدّل من خطابه، ويعيد النظر إلى هذه المحطّة السياسيّة، ولا الطرف الثاني سيمارس حدّا أدنى من النسبيّة ويقبل النزول أو التنازل عن موقفه.
بالتالي تقف البلاد التونسيّة أمام صراع إرادات، يعتبر كلّ طرف أنّه «الخير المطلق» وبالتالي يقدّم خصمه في صورة «الشرّ المطبق»، مع وجوب التمييز أنّ أنصار «الحركة التصحيحيّة» مهما كانت درجة قربهم من مركز القرار، ومهما تكن مسؤوليتهم الفرديّة أو الجماعيّة، عمّا ما هي القرارات المتخذة من قبل «أولي الأمر» يتحملون أمام الرأي العام، وخاصّة أمام خصومهم تبعات ما يتمّ تأويله في صورة «الخطايا» التي يرتكبها النظام.
في المقابل يرى أنصار ما يسمّى الشرعيّة، أنفسهم معفيين من أيّ مساءلة، بل هم «ضحايا» وأهمّ من ذلك «أصحاب حقّ»، أقلّه (من منظور ما يعتبرون من أخلاق) إرجاعهم والعود بهم إلى «شرعيتهم» أو في أقلّه «طرد الانقلابيين» وإسقاطهم من الحكم، بدلا عنهم.
إذا كان الجزم بعدم امكانيّة الوصول إلى «الحلّ الأمثل» الذي يُخرج البلاد من «عنق الزجاجة» ويذهب بها بعيدًا عن التوتّر السياسي، ويمكّن من التأسيس لمقاربة تضع أسس الإصلاح السياسي ومن بعده الإنقاذ الاقتصادي، فاليقين قائم بعدم القدرة على التأسيس لأيّ «حلّ» وإن كان «مرحليّا» أو «منقوصًا» أو هو مجرّد وضع لقاطرة «الإنقاذ» على سكّة الانتقال إلى حال أفضل ممّا تعيش البلاد ويشعر المواطنون.
قراءة للواقع الماثل أمام الأعين، تبيّن استحالة، وفق الموازين القوى القائمة، وعلى ضوء ما هي «الخطوط الحمراء» الاقليميّة خاصّة، الذهاب في سيناريو «التصفية» في بعدها المادّي وتجسيدها الأمني وربّما العسكري، لأنّ لا طرف قادر على حسم «المعركة» في سرعة، والأخطر من ذلك، توسّع الأمر ليكون أبعد من حدود البلاد التونسيّة، ليهدّد المحيط المباشر، أيّ الجزائر وليبيا ومن بعدهما دول الضفّة المقابلة من البحر الأبيض المتوسّط.
إذا كان سيناريو «الحسم الدموي» مرفوضًا من أغلب الأطراف الاقليميّة والدوليّة، ذات التأثير الفعلي والفاعل في الشأن التونسي، يبقى سيناريو «تأبيد الأزمة» خطيرًا هو الأخر، وإن كان بدرجة أقلّ، لا يقلّ خطرًا هو الأخر. على اعتبار ما نرى من «تعفّن الوضع السياسي» من خلال نشر «الغسيل» (الوسخ) على صفحات التواصل الاجتماعي، قائمة 25 مثلا وما تلاها ويتلو من «تسريبات»، تمثّل مؤشّرا (على قدر كبير من الخطورة) عن «غياب الدولة» حين لم تكلّف وزارة العدل نفسها إصدار أيّ بيان أو هو تعليق حول الموضوع.
أخطر من «غياب الدولة» أو ربّما تغيبها أن صار «الصراع» يشقّ مفاصل الدولة ذاتها، ممّا يقدّم صورة سلبية عن جهاز الحكم ذاته، أوّلا، وكذلك يفتح الباب مشرّعا على جميع الاحتمالات، حين تحتكم جميع «شقوق النظام» على المال والسلاح والنفوذ.
من المضحكات المبكيات، أن يركّز ما يُسمّى أنصار الشرعيّة خطابهم ويؤسّسون كامل رؤيتهم على تعداد «نقائص» الجبهة المقابلة واعتبار «الحرب الأهليّة» داخلها «انتقامًا ربّانيا» كما كتب أحدهم، الذي لا ينقص كلامه سوى الحديث عن «طير أبابيل» ترجم قصر قرطاج، في حين أنّ ذات «الشقوق» أو ربّما أخطر تشقّ «جبهة الشرعيّة» بدءا باعتبار العديد أنّ وضع النهضة (العمود الفقري لأنصار ما يسمّى «الشرعيّة») ما كان لينحدر إلى مثل هذا الدرك لولا «الأخطاء القاتلة والمميتة»، التي تردّد أوساط غير قليلة، داخل النهضة، أنّ راشد الغنوشي ارتكبها ولا يزال، سواء على رأس النهضة أو عندما جلس على كرسيّ رئاسة مجلس نوّاب الشعبي.
أيضًا لا يمكن لأيّ قارئ للمعادلة السياسيّة في تونس سوى أن يعتبر «جبهة الخلاص» أشبه بالقطار الأخير، الذي يركبه المسافرون من باب الجبر وليس الاختيار أو التوافق، بمعنى أنّ أحمد نجيب الشابي الذي كان صرّح ذات يوم على قناة «الجزيرة» أنّ ينظر إلى قيس سعيّد وراشد الغنوشي من زاوية السيّء والأسوأ، لا يمكنه أن يصير ضمن ما يسمّى جبهة «الخلاص» ذلك «الفدائي» الذين يقبل «الاستشهاد» ليعود «شريكه» راشد الغنوشي على رأس مجلس نوّاب الشعب، كما كان…
لا يمكن الحديث في تونس أو اعتماد سؤال «من هو الأفضل؟»، بل وجب أن نقيص «من هو الأقلّ سوأ؟».
كذلك لا مصدر رزق سياسي، لهذا الطرف أو ذاك سوى تعداد مساوئ الأطراف المقابلة، سواء «أعداء الجبهة المقابلة» أو (والأخطر من ذلك) التمعش من جرائم «رفاق اليوم» الذين حتمًا سينقلبون في مستقبل منظور دون أدنى شكّ إلى «أعداء الغدّ»…