مع فارق يومين (لحسن الحظ أو لسوئه) سيذكر عدد غير هيّن من التونسيين يوم 13 سبتمبر مثلما يذكر الامريكيون يوم 11 من ذات الشهر. الحزن ذاته (أو يكاد). بكاء وعويل وخاصّة التأكيد على «إرهاب» الطرف المقابل، مع إضافة بالنسبة للواقع التونسي أنّ «الفاعلين» يأتون من ذات الجلدة، بل هم من حسبهم «الضحايا» ضمن «حماة الثورة» (عند انطلاقتها وخلال الفترة الأولى) لينقلبوا إلى متحالفين (وفي رواية أخرى خونة) باعوا انفسهم إلى «الشيطان الأكبر» (النداء ومعيته)…
أزمة ما صار يوم 13 سبتمبر بين ثنايا «مجلس نواب الشعب»، ليست أزمة فعل (بمعنى الممارسة) أو يتعلق الامر بالنتيجة، بل هي مصيبة فاعلين وفضيحة المناخ العام التي تمّ فيه الفعل، حين ثبت بما لا يدع للشك أنّ تمرير «قانون المصالحة الادارية» لم يكن غاية في حد ذاته (فقط)، بل تحوّل (وهنا الخطورة بل مصيبة المصائب) إلى مسألة «حياة أو موت» بل هي «تصفية» حساب على شاكلة النزال بين فارسين. نهايته بموت هذا على يد ذاك….
يأتي المنتفعون بالقانون (أيّ الجهة المدافعة عنه) أشد عنفا وأكثر المتحمسين له، بل هو لديهم أشبه بما هي «شهادة عذرية» لدى عجوز جابت منذ شبابها/ مواخير الدنيا قاطبة، لتنفي به (أي القانون) ماضيها وتنتصب للإفتاء في أصول الشرف وقواعد الذود عن العرض…
ما يصدم أثناء الصراخ/الصياح/العراك/الاشتباك الذي شاهدته الجماهير بين الجهتين، أنّ الاصطفاف القائم لم يكن من الصنف المعهود على الأقلّ منذ التضاد بين «اعتصام الرحيل» (في باردو) مقابل «اعتصام الشرعية» (في القصبة). من تصادم عمودي تحوّلت البلاد إلى اعادة تشكيل أفقي، ليكون حلف النهضة مع النداء معارضا لحلف الجبهة الشعبية مع القوى التي كانت حليفة النهضة في السابق (زمن الترويكا خصوصًا)…
ما يصدم بل ما يثير دهشة لدى علماء السياسة والاجتماع وحتى من يدرسون الأبعاد السيكولوجية لمثل هذه الحالات، أنّ القانون الذي يبغي هذا الطرف تمريره والاخر رفضه بالتصويت (أيّ خلال «اللعبة الديمقراطية»)، يجري في أجواء تنفي الديمقراطية ذاتها سواء على مستوى الأجواء أو الرّوح، مما يعني (وهنا الخطورة) أنّنا أمام معركة اقطاعية، بما تعني من حروب اقصاء وتصفية (بما توفر وبما أمكن) حيث «الديمقراطية» (من خلال التصويت) لا تعبّر عن قاعدة تعايش مشتركة، بل (وهنا الخطورة) هو تعداد للقوى مثلما يجري قبيل أيّ معركة حربية تعتمد التصفية الجسدية أو هو الافناء في أبعاده الماديّة….
كما اخترع اليسار التونسي (زمن العزّ) توصيف «شبه اقطاعي، شبه مستعمر»، يمكن أن نصف الحكم الحالي بأنه «شبه ديمقراطي، شبه دكتاتوري»، حين يأتي على مستوى القناع السياسي والادوات الظاهرة «ديمقراطيا»، في حين أنّ العقل والروح والماهية والهوية والهوى، لا تزال جميعها دون قيد او شرط «دكتاتورية» حدّ النخاع.
هو صراع بين من يتظاهرون بالديمقراطية ويستبطنون الدكتاتورية (النهضة والنداء) مقابل من يتظاهرون بالديمقراطية (في نسخة أخرى) ويستبطنون الحسم الثوري حين لم يعد غيرهم قادر (أمام الجماهير) على «تعاطي خطاب الثورة»…
أخطر من حال الانفصام المزدوج أن لا النهضة قادرة على أن تستوعب أن مضاجعة النداء يلغي عنها صفة «الثورية»، كما أنّ «الضفة المقابلة» عاجزة عن فهم عجزها عن تحويل «الرصيد الثوري» الخَطابي (منذ 14 جانفي)، المفعم بالحماسة إلى «طاقة انتخابية». وحده النداء ومن معه ومن وراءه (بحكم الخبرة في تعاطي السلطة) يدري ماذا يريد ويفعل ما تمليه «المصلحة» دون عقدة ذنب او احساس بالخطيئة.
النهضة والنداء يشتركان في صناعة «وهم التأسيس» (أو «التأسيس من خلال الوهم»)، أي أنّ ما يقومان به (وفق ما يقولان) عبارة عن «تأسيس» لأشياء عديدة منها «الاستقرار» الذي به يقوم حال البلاد، في حين أن تجربة البلاد منذ نشأة دولة 1955 (الاستقلال الداخلي) تؤكّد أنّ ما تمّ على المستوى الإجرائي (من قبل كلّ الرؤساء) لا يعدو ان يكون سوى «بيوت متنقلة» (بالنسبة للنداء ومعيته) وخيام من الشَعْر [بفتح الشين وتسكين العين] (بالنسبة للنهضة). أمّا الصفّ المقابل، أيّ «الجبهة» ومن معها فهم أشبه بالموالي، ممّن يحتاجون غطاء الأخرين أو هو مثل حالهم اليوم، يبيتون في الخلاء ويعتمدون الإغارة عن مضارب النهضة والنداء.
المعركة في لبّها ليست من أجل «قانون» (فقط أو في المقام الأوّل)، حين لا يعترف الطرف المقابل بالقانون من أصله، وكذلك هذا «القانون» قائم ونافذ ما دام النهضة والنداء ومن معهما ومن ورائهما، يمسكون دواليب السلطة، لنخلص أنّ لا أحد يسلّم بما ورث خارج المصلحة وخارج الولاء وبعيدًا عن الاصطفاف، لتكون الارباح السياسيّة وكذلك منافع السلطة، أشبه بالمثلجات في عزّ صيف قائض، صالحة للاستهلاك على عين المكان ومن منطق القوّة وفعل الغلبة، وليس بفعل التراكم الديمقراطي الذي في كنهه (افتراضا) يكون فوق المعارك وفوق الحساسيات وخاصة فوق شعور الغلبة والانتصار وما يقابله في تونس من شعور بالغبن والانكسار.
في الملخّص هو صراع لن ينتهي قريبًا، بين «منطق الثورة» القائم على ثنائيّة «الأخلاق» (في بعدها الحماسي) وما يجب من «مفاخرة» تليق بما تحوي «معلّقات الجاهليّة»، تحوّلت جميعها إلى «رأسمال» يتمّ تدويره، في اعتقاد أنّه أرقى من «منطق الكمّ الديمقراطي»، مقابل «منطق الكمّ الديمقراطي» القائم على قاعدة «القوّة العدديّة» القابلة للعدّ ومن ثمّة التثمين، سواء عبر الاقتراع أو هو التصويت داخل المجلس من أجل هذا القانون أو ذاك…
يمكن الحديث في تونس عن «الثأر الديمقراطي». بن علي (وما أدراك) صنع دستورا خاطه خادمه عبد العزيز بن ضياء على مقاس سيده، فكان أن انقلب محمد الغنوشي (ديمقراطيا) على سيده وتاج رأسه دون ان يصمد هذا الدستور أو هو تحوّل الى دليل على من صنعه. كذلك يمكن الجزم بخصوص «قانون المصالحة»، أنّه قائم ما قام أصحابه على رأسه. من ذلك يأتي السعي المَرَضي والمحموم لتحوير الدستور والذهاب به (أو بالأحرى العود) إلى نظام رئاسي معلن وصريح لأن من يريد السلطة ومن يسعى نحوها يريدها (أي السلطة) خالصة لشخصه ودون شراكة مع غيره، إلى حين تكون الشرارة أو هي نقطة الانفصال/الانفصام بين دوائر السياسة الفوقية عن مفاعيل الغليان السفلي، الذي يأتي أخر همّه التعرّف على تفاصيل الفرز بين هوى «الشيخين» أو الأعذار السيكولوجية المرضية التي دعت أزلام بن علي إلى الهوس برتق العذرية، أو من كان ضمن النهضة «جبهة الرفض». كلّها تفاصيل تهمّ المؤرخين قطعا، لكن لا تعني البتة من يقولون حينها أنّهم يصنعون التاريخ….