بقلم الصغير شامخ
وأنت تنظر إلى «شلاغم» عمّ الطاهر وإلى كفّي عمّ خليفة وبجانبهم عينان بارزتان من وراء حزن عميق أخفته بسمة لا يراها كثيرو الفرح والسرور، ارتسمت على وجه «الفاطمة»، لا تتخيّل أنّك في مشهد درامي، أصل الحكاية أن «شلاغم» عم ّالطاهر لا يعرفهم من تنكّر «لرجال بالشلاغم» وبؤس الدولة الذي ارتسم على وجوه البقيّة لا تعرفه الوجوه المنتفخة النائمة على فراش الحرير بعد أن امتلأت الكروش من ما أنتجت المطاحن والطواحين.
كان هذا مشهد ضمن مشاهد غير منتهية من مدينة جمنة بولاية قبلّي حيث يسقط الطير من الحَرّ على منقاره ويقفز سائر البرّ الغريب عن الديار والتضاريس من لفح حبّات رمل صفراء ذهبيّة صارت بأشعّة الشمس جمرا أطفئ بدماء كثيرة سرت فيه جداول من أثر ضربات «السلّول» (شوك جريد النخل) واختلطت الحبات بقطرات مازالت تسري في العروق حتّى صار التواجد والوجود بالمنطق الديكارتي وضديده يشترط انسجاما وحبّا لا يروى عند «عبير» بين روحين بشريّة فيها من نفحات الله وجماد فيها من وديان الرحيق ما إن سرى حتّى تراءى لك فيه منافع وأشياء كثيرة.
أصل القضيّة في «هنشير ستيل جمنة» بات معلوما بالضرورة أمّا أصل الحكاية فلا يدركه إلاّ قليل، عندما أحسّ الناس بالانتماء لوطن كان مغتصبوه يعاملونهم كـ«كرّاي» و «سرّاح» انتظموا في توافقات مواطنيّة أفقيّة طوّعت الجغرافيات الوعرة التي غابت فيها الدولة في أذهان الناس وعلى الأرض من أجل استجماع مقوّمات البقاء دونما تبعيّة لمركز متغطرس مغتصب يمارس رأسماليّته المافيوزيّة على الهامش وهذا وحده إنجاز هو عينه «التجربة التونسيّة» من عمق وجوهر أطلس 17 ديسمبر وهنا قلق الدولة المضاعف، من استمرارية الوجود والإعمار والعمران في غيابها و دون «مزيّتها» والتبعيّة لها أولا ومن نجاح نموذج مضادّ لسياساتها على هامشها ثانيا.
يخطئ كثيرون إذا اعتقدوا أن من ساندوا جمنة يدافعون عن تجربتها الرائعة والناجحة، لا إطلاقا، هذه التجربة تدافع عن نفسها بنفسها ولا تحتاج عبقريّة فذّة لإثبات نجاعتها اجتماعيا واقتصاديا وحتى سياسيا ويخطئ أكثر من صدّق كلمة واحدة من سرديّة حكوميّة فضفاضة تجنّدت للدفاع عنها أحزاب وكتل برلمانيّة وأبواق إعلاميّة ودعائية كثيرة، المسألة أعمق بكثير من كلّ هذا بل إن عدم إدراك ذلك نقل للملف إلى مربّع يحبّذه النظام نفسه حيث تترعرع سردياته المبتذلة.
لنعد إلى البدء، قضيّة «هنشير ستيل جمنة» ليست نفيا للدولة فقد أقدمت جمعيّة «حماية الواحات» هناك على تمويل وإنجاز مشاريع تنمويّة كثيرة بالجهة بإشراف من السلط الجهويّة ووزارة الداخليّة نفسها أي أن السلطة التنفيذيّة كانت على دراية ومتابعة كاملة للملف كما أن المقترح الذي يطرحه الأهالي هناك لا يحمل في طياته إعلان ميلاد «دولة جمنة» الشقيقة بل تثمين تجربة جمنة الرائدة، هذا أوّلا، أمّا ثانيا ومن الناحية القانونيّة فإنّ جمعيّة حماية واحات جمنة غير رافضة للتوجّه إلى القضاء العادل فالأهالي هناك يمتلكون حجج ملكيّة للأرض، أمّا الدولة المعترضة فهي نفسها تصرّ على الاعتراض على تثمين ثمرات التجربة من أجل العودة بالوضع إلى وضعه السابق أي قبل تولي الجمعيّة الإشراف على الهنشير بالتالي يظهر جليا وفاضحا أنّها تسعى إلى حشر الجمعيّة في المسار القضائي الذي سيأخذ سنوات طويلة حتما حتّى يتم تناسي التجربة ووأدها.
هناك منطقين للتداول مع قضيّة هنشير ستيل جمنة، الأوّل هو منطق «النتيجة» والذي يمكن مشاهدته بمرأى العين على عين المكان هناك من خلال الفرق الشاسع بين وضع الهنشير المذكور والهناشير المجاورة له وكذالك بمقارنة حسابية بسيطة لعائداته ومجالات استثمارها من طرف الجمعية حاليا بما كان يحدث سابقا، أمّا المنطق الثاني فهو منطق «الغايات»، وهنا يرفع المركز شعار «هيبة الدولة» وهذا شعار لا يستحقّ الردّ عليه أصلا لأن الوزير المعني (مبروك كورشيد) لا قيمة ولا قدر ولا هيبة له منذ زمن بعيد أمّا أهالي جمنة فغايتهم تطويع الأرض من أجل البقاء في ظل غياب الدولة عن دورها الاجتماعي والفرق جلي بين الحجّتين.
من هذا الأساس فإنّ الحجج التي يصرّ «تحالف البوليس واللصوص» بكل أذرعه وقوّته على ترويجها سهل دحضها ونسفها وهي تحمل في طياتها ضديدها فما هو الإشكال الحقيقي إذا؟
في الواقع، نظام المركز الغاصب يتعامل مع «السياسة» على أنّها لا تمارس خارج المدينة حتّى في زمن الأفقي والإنسان التواصلي أي أنه «سلفيّة المركز» وهذا يعني ضمنيا وعلنيا أن حركة الهامش إذا كانت في علاقة به تعتبر تمرّد إلاّ التبعيّة التي يستبطنها المفهوم الأوّل. من هذا المنطلق كلّ حركة ستقوم في الهامش للقطع مع التبعيّة ستكون في اعتبار المركز «تمرّدا» وهنا سيكشّر المركز وجوقاته التي لا تغيب عن محضر عن «داعشيّتهم» المعلومة مسبقا وهذا تقريبا و باختصار ما حدث في جمنة.
ما يقلقهم في تجربة «هنشير ستيل بجمنة» هو ميلاد هذه التوافقات الأفقيّة في بلدات خارج «السياق الوطني» من أجل تطويع الجغرافيا بالموجود لإنجاز المنشود التي أثبتت جدواها أكثر من التوافقات المشبوهة التي يمسك كل طرف فيها بسكّينه وراء ظهره و ما يقلقهم أكثر أن تكون هذه التجربة قابلة للتصدير و للتعميم أي و هنا اعتراف واضح من السلطة السياسيّة نفسها بقصور وإعاقة وخلل على مستوى العمل والأطر والمؤسسات وحتّى على مستوى السياسات. بحساب الزمان والمكان والمصلحة العامّة لا يوجد ما يحول دون تثمين تجربة جمنة ومساندتها إلاّ المصالح الخاصّة والضيّقة التي يتحرّك منها وبها كثيرون ومن بينهم من نزلوا إلى هناك جريا بين باحث عن تموقع وعن صورة وعن أشياء أخرى ولكن لحظة الحقيقة تكشف كثيرا من العورات وقد فضحتها، فالمشهد هناك فيه وجهان دود الأرض من جهة وأخطبوط الفساد من جهة أخرى.
شكرا هذا الكلام الصحيح و دمتم فخرا لتونس أيها المناضلون الأحرار تحيا جمنة و تحيا تونس.تجربتنا ستتجاوز الى ما بعد النجاح .شكرا على المساندة