عادة، تمثّل الانتخابــــــات في الديمـــقراطيـــات الليـــبراليّة الوسيلة الأوحد والأفضل بغية فرز نخبة سياسيّة تتقلّد السلطة لفترة معلومة، مع تأمين شرطين متلازمين. أن تأمن الجهة التي لم تفز على ذاتها ومالها وحريتها من ناحية، مقابل التسليم للطرف الفائز وعدم اللجوء إلى «أساليب غير ديمقراطـــيّة» لممارســـة دور المعـــارضة، من ناحية أخرى. كما تتفّق الأطراف السيـــاسيّة أن من يصعد من خلال الصنـــدوق لا يترجل عن مكانه في السلطة سوى من خلال الصـــندوق أو يقرّر الانسحاب مؤقتا أو نهائيّا من عالم السيـــاسيّة عن طيب خاطر.
هذان الشرطان غير متوفران ضمن الحالة الأمـــريكيّة، حين لم يسلمّ دونـــالد ترمـــب بالهزيمة أمام جوزيـــف بايـــدن في الانتخابـــات الرئـــاسيّة لسنة 2020 ورفض المشاركة في حفل التنصيب ونقل السلطات، كما صرّح بأنه سيعبر انتخابـــات 2024 «مـــزوّرة» في حال عدم فوزه.
يمكن الجزم أن الولايـــات المتّحـــدة الأمريكـــيّة تعيش للمرّة الأولى صراعًا مفتوحًا ومواجهة ظاهرة للعيان بين كلّ من تيّار «الأمـــركة» مقابل تيّار «العولـــمة»…
وجب التذكير أن الـــولايات المـــتّحدة عاشت تناغمًا بل تكاملا بين التيّارين، خاصّة منذ نهاية الحـــرب الكـــونيّة الثانية، بل يمكن الجزم أن الطبقة السياسيّة الماسكة لدواليب الحكم كانت في الآن ذاتها تؤمن بوجوب أن يكون بلدهم الأقوى عبر العالم، وأنّ هذه السيطرة على مقدّرات العالم، مفيدة جدّا للبلاد، بل هي من شروط القوّة هذه.
بدأ «هذا الصفاء الأيديولوجي» يتعكّر بمجرّد أن صارت التكنولوجيا تمكّن من نقل الأموال (مهما كان المبلغ) في رمش العين من طرف العالم إلى الطرف المقابل، وتأكد أن المضاربة في أسواق المال وما تفرّع عنها من أسواق، يمكّن من أرباح تفوق عشرات المرّات ما تدرّه قطاعات الاقتصاد التقليديّة، أي المنتجة لوسائل الإنتاج والاستهلاك.
تجاوزت رؤوس الأموال هذه، حدود الدولة في أبعادها «القُطريّة» المباشرة التي قامت عليها، أقلّها ما نصّت عليه اتفاقيات ويـــستفاليا (1644-1648)، لتقتنع أنّ بإمكانها السيطرة على العالم، دون أن يكون للـــولايات المتّـــحدة «الأفضليّة»، أيّ أنّ النخبة الممسكة بهذا التيّار، لا ترى في انتمائها الأمريـــكي شرطا لتميّز هذا البلد عن غيره.
«عولمة المال» أدّت منذ بدايتها إلى «عولمة الأسواق» وإن كانت بنسق أقلّ سرعة.
السعي الدؤوب وراء تحقيق أفضل ربح، في أقصر وقت، في أفضل ظرف، دفع إلى نقل المصانع إلى الدول التي توفّر أقل كلفة إنتاج ممكنة. تراجعت مساهمة القطاع الصناعي في الفضاء الغربي عامّة وفي الولايـــات المتّـــحدة على وجه الخصوص، ولم يعد الاقتصاد الأمريـــكي قادرًا على تمكين من هم أسفل السلّم الاجتماعي من الحدّ الأدنى ممّا يضمن «حياة كريمة»، تؤمّن الاستقرار الاجتماعي الضامن دون غيره لدوام الدول واستمرار وجودها.
نشأت في الـــولايات المتّحـــدة فئة كانت إلى حدود الثمانينات تمثّل «الطبقة العاملة» التي تلعب دور الشريك في نجاح اقتصاد البلاد.
يمكن الجزم أنّ «الأمـــركة» تمثّل الردّ الطبيعي أمام ما أحدثت «العولمة» من مآسي، حيث أصبح ملايين الأمريكان، من المشردين وفاقدي السند، وحتّى الطبقات التي كانت إلى ماض قريب ترى أنّها «الطبقة المتوسطة» القادرة على تأمين الحدّ الأدنى من شروط الحياة الكريمة، يشاهدون على وسائل إعلام ما يؤكّد «الصحّة الممتازة» لاقتصاد بلادهم، حين تحقّق كبرى المؤسّسات العاملة في مجال المال عمومًا والبورصة بجميع أشكالها، أرباحًا خياليّة، يتمتّع بها حصرًا من يملكون الأسهم دون إغفال المشرفين على هذه المؤسّسات الذين صارت مداخيل البعض منهم تفوق مئات ملايين الدولارات سنويا.
السؤال المطروح في الـــولايـــات المـــتّحدة من قبل قطاعات تتوسّع في البلاد، يتلّخص في تحديد كيفية التعامل مع «ديمقراطيّة» قنّنت إفقار قطاعات تتوسّع، والرمي بها خارج الدورة الاقتصـــاديّة…
قطاع «الأمـــركة» جمع فئات عدّة: بدءا بالمتضررين من تراجع قطاع الصناعة في البلاد، مرورًا برؤوس الأموال المتضرّرة من العولمة مثل قطاع المقاولات وغيرها، وصولا إلى من يعتبرون أنّ تيّار العولـــمة يهدّد ليس فقط ما راكمت بلادهم من قوّة بل يعملون للقضاء عليها.
داخل هذه «الخميرة» وجد دونـــالد تـــرمب متسعًا لتمرير خطابًا شعبويّا، يمكن تلخيصه في شعار «العود بأمريكا قويّة من جديد»، استطاع من خلاله جمع طيف أوسع بكثير من الصورة النمطيّة للفئة المنتخبة للرجل أثناء انتخابات 2020، أيّ الرجل الأبيض البـــروتسنتي المقيم في مدن متوسطة وصغيرة وفي الأرياف.
أهميّة النصر البيّن الذين حقّقه دونـــالد تـــرمب، أنّ تمّ رغم سيطرة تيّار العولمـــة، على مجالات المال والإعلام والإمساك بدواليب الدولة وجميع أدوات السلطة وأهمّها معاهد سبر الآراء التي تحوّلت إلى أحد أهمّ وسائل التأثير في الوعي العام.
الهزيمة التي منيت بها كـــامـــيلا هـــاريـــس لا تعنيها وحدها، بل تخصّ تيّار العولمة على مدى الكون بأكمله، لأنّ المخيف والمرعب يكمن في سقوط معاقل أخرى يسيطر عليها هذا التيّار راهنًا.
المعركة أوسع وخاصّة أعمق من أن تكون مجرّد «صراع اقتصادي». هي حـــرب حياة أو موت بين مشروعين، كلّ منهما نقيض ما يحمل الأخر، في ما يخصّ «المجتمع» الواجب تأسيسه ضمن جميع معاني الكلمة.
قطاع العولـــمة يمتلك مشروعا مجتمعيا على قدر كبير من الوضوح، يمكن تلخيصه في المناداة بالحريّة الفرديّة في أبعد حدودها، على رأسها الحرية الجنسيّة، وبروز «الشـــذوذ الجـــنـــسي» ليس فقط في صورة «الخيار المقبول»، بل «الصورة المثاليّة» للإنسان الذي يبغي هذا التيّار تأسيسه. دون أن ننسى تدمير كلّ البُنى الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة، العائلة أساسًا، وصولا إلى إقامة حكومة واحدة تدير العالم بأكمله.
يمكن الجزم أنّ تصويت قطاعات واسعة من خارج «المعين الانتخابي» المعروف لفائدة دونـــالد تـــرمـــب، تجاوز القراءة العنصريّة التي يحملها قدر غير هيّن من منتخبيه، ليكون الخوف على الأسرة وما يبدو من تفشّي «الليبـــرالية الجنـــسيّة» بين الشباب وحتّى المراهقين والأطفال، دافعا للتصويت لغريم كـــامـــلا هـــاريـــس.
يشعر تـــيّار العولـــمة أو هو يريد اقناع المنخرطين في سياقه أنّه خسر معركة ولم يخسر الحـــرب بكاملها، ليكون السؤال منحصرا بين خيارين: إمّا «اغـــتيـــال» ترمـــب «رمزيا»، بوضع جميع العوائق أمامه، خاصّة وأنّهم يملكون المال والإعلام ومجالات الفنّ عمومًا، خاصّة أنّ تـــرمب لا يحقّ له الترشّح في انتخابات 2028، أو «اغـــتيـــال جسديّ»، حين عرفت محاولتين الفشل؟
الخيار الثاني يبدو أضمن من الأوّل…