أخطر من الاغتصاب ذاته في أبعاده الجسديّة والنفسانيّة، أن تكون الضحيّة مجبرة (تحت التهديد، طبعًا) أن تتظاهر بالتلذّذ وتبدي من دلائل «المتعة» ما يثلج صدر الجلاّد.
ذلك هو حال النهضة راهنًا أمام «منظومة الحكم» في تونس الموزّعة (في دهاء شديد) بين «عمق خفيّ» (الدولة العميقة) مقابل «عقل ذكيّ» (الباجي قائد السبسي)، دون أن ننسى «اللسان المتحرّك» (يوسف الشاهد)…
تحرّك «جوق الأوركسترا» (الإعلامي) من أجل «تخوين» (كائن من كان)، ربّما أو هو يتخيّل يوسف الشاهد (ومن ورائه ومن قبله الحكومة) على غير «صورة الكمال» (في أبعادها الأمريكيّة الصرفة)، حين لم يعد الخيار مطروحًا أمام الأحزاب والتنظيمات «المتورطة» في «لعبة الحكومة» سوى «قبول الأمر الواقع» ومن ثمّة «الإذعان» أو هي «الطاعة والامتثال»، في مقابل (لا قدّر الله) الظهور في صورة «يهوذا» الخائن، الذي لا تجوز عليه سوى اللعن (والعياذ بالله)…
تجد حركة النهضة ذاتها، رغم ارتفاع «مقامها» (في «مجلس نوّاب الشعب») وعلوّ «قدرها» بين الأحزاب، دون أن ننسى «دهاء» شيخها، «الشريك/المؤسّس» لما هي «لعبة التوافق» ذات الأبعاد «الاستراتيجيّة» (على حدّ قول «حمامة» النهضة عماد الحمّامي)، مخيّرة بين «الطاعة والقبول والامتثال» أو (وهو ما لا ترضى به النهضة) الظهور في صورة «خائن حكومة الوحدة الوطنيّة»…
رغم كلّ هذا الرصيد «الضخم» بل «الهائل» (مقارنة بالأحزاب الأخرى) تجد النهضة ذاتها في خيار بين «نارين»، ومن ثمّة بدا «التوتّر الشديد» على مجلس الشورى، وانسحب على القيادات (أمثال عبد اللطيف المكّي)، ومنه إلى «العمق الشعبي» الذي (أسوة بالعبرانيين) هاجر من «سلفيّة السيّد قطب» إلى «الديمقراطيّة» (وفق الشروط الغربيّة) طمعا في أنهار من «اللبن والعسل»، لم يبد منها (إلى حدّ الآن) سوى أصبع (الخبير الفلاحي) يوسف الشاهد…
تعلم الولايات المتحدة الأمريكيّة (التي صنعت يوسف الشاهد وأعدته ورتّبت أوراقه) استحالة أن تذهب قيادة حركة النهضة (الحاليّة، أي راشد الغنوشي) حدّ الظهور في شكل «يهوذا» (الخائن) في البرلمان، أيّ أنّ النهضة (مهما كانت تركيبة الحكومة) «مجبرة» على ابتلاع العلقم، ومن ثمّة الابتسام والظهور في مظهر من يتناول العسل اللذيذ…
تدري النهضة ويكون اليقين قائمًا عند «مرشدها» راشد الغنوشي (الآن بعد أن فات الأوان) أنّ الولايات المتحدة جاءت به إلى الحكم مجرّد «عدّة شغل» قطعت عليه وعلى حركته وأتباعه خطوط الرجعة، وقطعت خيوطه أو هي دمرتها مع «الطرف المقابل» (على المستوى العالمي أي روسية ومن منعها) في سورية، ومن ثمّة يأتي الخيار أمام النهضة وزعيمها أشبه بتلك التي صاحت «النار ولا العار» وليس صورة طارق بن زياد الذي فضل مقارعة العدو على التراجع إلى البحر، بعد أن أحرق سفنه…
تتخبط النهضة في مستنقع صنعته لنفسها، ولا خيار لها عن «المناورة» سوى «المناورة» من جديد، ولا أفق أمامها سوى أن تترقب هفوة «الباجي» أو «غباء» محسن مرزوق الذي فضّل أن يكون ضمن «الاحتياط» في حال قرّرت النهضة «الانتحار»، ليكون ضمن من يجهز عليها أو هو الأوّل بالضرورة…
أبعد من تونس وأعمق من حكومة الشاهد، حين تأتي البلاد التونسيّة قطعة صغيرة على خارطة محترقة في سورية والعراق، ما تشهده الساحة «الاخوانيّة» في العالم، بين المغرب حيث الاستكانة والطاعة، وتونس أين المناورة والتوافق، ومصر أين ضاع الأمل في انتظار سقوط «فرعونها الجديد»، ختامًا بالحالة التركيّة أين يحاول أردوغان أن يربح على جميع الجبهات وهو يهدّد الجميع ويدفع الجميع إلى «الطمع» فيه. في حين تبقى «حماس» الفلسطينيّة (شكليّا) في صراع (وجودي) بين شقها العسكري في الداخل، مقابل جناحها «السياسي» في الخارج..
الشاهد (أي سي يوسف) مجرّد «كومبارس» في انتاج هوليوودي أضخم من تونس وأبعد فكر وأعمق من دهاء الباجي. صحيح أن الولايات المتحدة استغلت «شعور العظمة» عند «حاكم قرطاج» وجعلته يخدمها في صدق من يخدم ذاته وذريته وعائلته، لكنّها استغلّت وعملت وضخّمت «شعور التذاكي» عند النهضة وزعيمها، بأن أفهمته أن لعبة «التوافق» أزليّة وأبديّة، ولا بديل عنها سوى التوافق ذاته.
دخل الباجي «الفخّ» من تلقاء ذاته، ووضع الغنوشي رجلها في الجبّ وهو يتخيّل ذاته أذكى من ذكاء الغربي، بل جعلت الولايات المتحدة العمق الاخواني ينجذب بين «ديمقراطيّة» (غربيّة) يدافع عنها ويستميت «أزلام الغنوشي» (أي دائرته الأولى)، مقابل «عقليّة النصرة»، التي غيّرت التسمية (التجاريّة) لتستوعب «جحافل» المرتدين عن العمق الإخواني…
الصدمة سيكولوجيّة في أساسها: من حسب نفسه الأقوى والأعلى والأذكى، استفاق على سقوط مدوّ على أيدي «صوص» لا تاريخ ولا عمق ولا ذكاء له، اسمه يوسف الشاهد.
الصدمة شديدة داخل النهضة، وسيكون صداها قوّيا بعد فترة، حين يكتشف «العبرانيون» الجدد (أيّ النهضة) أنّهم تاهوا 5 سنوات (منذ 14 جانفي) وراء سراب أو هو الوهم، مع اليقين بأنّ خطّة الرجعة انقطع أو هو واد سحيق صار يفصل القيادة (خاصّة) عن شعارات مثل «عليها نحيا، عليها نموت»…
الأزمة في النهضة ستتجاوز الأبعاد التنظيميّة وحتّى الأيديولوجيّة، بل سؤال وجودي (بالمفهوم الغريزة المتأصلة في ذات الإخوان): كيف استطاع شيخ النهضة ومرشدها، أن يضيع رصيد الحركة في «لعبة قمار» أقسم راشد الغنوشي (ودائرته الأولى) أنّ مردودها أعلى من «خزائن لاس فيغاس» بكاملها؟؟؟
191 تعليقات