هناك أمور في كلّ دول العالم تأخذ بعدًا رمزيّا ولا يمكن أن نقيسها بعلم الحساب وأصول المحاسبة، بل هناك أحداث هزّت العالم بسبب ما تحمله من رمز وبسبب ما بها من قدرة على الشحن العاطفي…
في بلد مثل تونس، خرج الناس فيها إلى الشوارع، العامّة الذي لم تحركهم الأحزاب أو هزتهم السياسة، يرفعون شعارات جمعت العمق بالبساطة، فكان أن تغيّر «رأس النظام»، وبقي «الجسد» يبحث عن صناعة «رأس» (جديد)…
في بلاد مثل هذا، لم تنجز أيّ حكومة جاءت بأيّ شرعية كانت، أيّ قدر من هذه المطالب، بل تفاقمت الأوضاع وتردّت الحالة إلى أتعس…
في بلد مثل هذا البلد، لا يجوز للنائب في «مجلس نوّاب الشعب» أن يجعل مطالبه المالية سابقة ومتجاوزة لمطالب العامّة وبقيّة طبقات الشعب.
المسألة تتجاوز الآلة الحاسبة والقول أو الجزم أنّ هذه الزيادات (زيادة أجور النوّاب) تمثّل قطرة من بحر الميزانيّة العامّة، وأنّ من «يندّدون بها» يمارسون «شعبوّية مقيتة»…
بعيدًا عن لغة الأرقام ومنطق الآلات الحاسبة وأصول الميزانيّة الممكنة أو القائمة، المشهد يأتي أشبه ما يكون في قرية صغيرة يعاني جميع من فيها شظف العيش وقلّة ذات اليدّ، إلاّ واحد أنعم الله عليه واختاره دونهم ليكون صاحب جاء وثورة، فيقوم بالتباهي بما يملك في ادّعاء، أنّ ماله حلال ولا شبهة فساد أو حرام…
نوّاب الشعب لا يعلمون أنّ الذاكرة الجمعيّة تتوّلى التخزين والجمع وليس بالضرورة أن تحاسب اليوم وتنفجر الآن… هذه الزيادات ممكنة في الدول ذات الديمقراطيّة المستقرّة التي لا يعاني خُمُسُ سكّانها من الفقر المدقع، وليس فيها نسبة بطالة كما هي في تونس
الشاب العاطل عن العمل في أحياء الفقر في ضواحي العاصمة أو في أقاصي القصرين أو أعماق الشمال الغربي، لا يمكن ويستحيل أن يفهم ويستوعب «القراءات (الاقتصاديّة) الكميّة»، وأنّ هذه «الزيادات» تأتي «قطرة من بحر الميزانيّة»….
هذه القطرة كما يقول النوّاب (أو البعض منهم) تمثّل فائضا أو بحرًا بالنسبة لعاطل عن العمل، يبحث أو يحلم أن يشتغل وفق آلية من الآليات، أي شغل مؤقت براتب أو هو مقابل لا يرقى إلى نصف ما ناله (حضرة) النائب من زيادة…
النوّاب أصبحوا «قبيلة» لا يبحثون عن مصالحهم فقط، بل هم أشبه بمّن يصل الأوّل وينال أفضل ما في السوق بالسعر الذي يريد ثمّ يتظاهر (نعم يتظاهر) بالتفكير في مشاكل من صوّت لهم، أي عمق شعبي أغلبه بين فقر مدقع وحاجة شديدة…
غباء رجال السياسة من وزراء ونوّاب، أنّهم يتخيّلون أنّ هذا العمق الشعب مطالب (رغم أنفه) بفهم المعادلات كما يريدون هم وليس كما يريد هذا العمق الشعبي. هؤلاء (رجال السياسة) يتخيلون أنّه يكفي مرور أحدهم على إحدى الشاشات لكي تغنّي النسوة فرحا ويرقص الصبية طربًا ويكبّر الرجال فخرًا بما قاله هذا «الجهبذ بن عبقر»…
في خضم وضع اقتصادي ذاهب إلى مزيد التردّي، وحالة اجتماعيّة أشعلت جميع أضواء الإنذار وأجواء أمنيّة بين متوترة وساخنة، كيف يجد هذا النائب أو ذاك الوقت أو العقل (إن وجد) ليسأل ويطرح مسألة الزيادة في الأجر، في زمن القهر الاقتصادي والغبن الاجتماعي…
احصائيات الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات قائمة وهي الدليل القاطع الذي لا يقبل الدحض… ارتفاع مهول من انتخابات إلى أخرى في نسبة المقاطعة، وارتفاع أكبر لدى فئة الشباب الذين غاب 93 في المائة منهم عن التصويت إبان الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة الفارطة…
هو منطق البايات من تحقير للجهات واذلال للرعايا، علمًا وأنّ لا جهة أفضل في المطلق من أخرى، جيوب الفقر تنخر الشوارع المحيطة بالشارع الرئيسي للعاصمة، وأحياء الفقر والخصاصة تحاصر المدن وخاصّة الأحياء الراقية…
معادلة التفجير في أبهى حللها، رأينا من صورها أثناء الاحتجاجات الفارطة…
إضافة إلى النوّاب الذي «وزّعوا على أنفسهم» يرى عمق شعبي أنّ الزيادة لأعوان الأمن، جاءت بسبب الحاجة إليهم في مسك الوضع وبسبب أنّهم «سلك مسلّح» أي ترسّخت «صورة» (ليس مهم مدى صدقيتها) أنّ «من يمسك السلاح يملك السلطة» أو على الأقلّ يستطيع المساوة بها وجعلها ورقة رابحة إن لم نقل الورقة التي لا تصمد أمامها الأوراق الأخرى…
بين «نوّاب الشعب» الذي نالوا ما أرادوا، وكذلك «حماة الشعب» (أي قوّت الأمن) الذي نالوا ما أرادوا، فهم هذا «الشعب» أنّ المسألة لا علاقة لها بالقانون ودون ارتباط بهذه الديمقراطيّة، بل الأقوى من ينال الحقّ، أو بالأحرى حقّه…
المسألة خطيرة وشديدة الخطورة، حين انقلبت البلاد، رغم «الحداثة» (المزعومة) وكذلك «الديمقراطيّة» (الموهومة) إلى اقطاع بين «القبائل» (المهنيّة/القطاعيّة)، كلّ ينال بما بين يديه من «سطوة وسلطان» أكثر ممّا يناله بالقانون…
هي دعوة صريحة للعصيان أو على الأقل للحصول على المبتغى بوسائل «غير ديمقراطيّة»… النوّاب يملكون المجلس، وأعوان الأمن يتحوّزون بالسلاح، والشعب (الكريم) لا يملك سوى الشارع للنزول…
اغتاظ البعض من حجم العنف الذي صاحب التظاهرات الفارطة من أجل التشغيل، وجاءت الروايات عن وقوف هذه الجهة أو تلك، لكن جزء من هؤلاء الشبّان (الذين مارسوا العنف) لم يكونوا في حاجة إلى مثل هذه «الجهات»، حيث مخزون العنف داخلهم ومقدار الشراسة كاف، للذهاب في هذا العنف دون البحث عن تحصيل الحقّ الذي لا يجوز (أخلاقيّا) الحصول عليه بالعنف…
26 تعليقات
تعقيبات: coach factory online
تعقيبات: cheap mammut jackets
تعقيبات: buy cole haan online
تعقيبات: factory canada goose outlet
تعقيبات: ralph lauren sale