بقلم: حاتم التليلي محمودي
ثمة خجل من الهوية إزاء جنسية القاتل الدموي، إحساس بالخطيئة كما لو أنّنا جبل من الندم، إنّ عارا منبته رؤية إلى الإرهاب تقول بأنه رهين أشخاص ما، هم منفذّي تلك العمليات، بالبحث عن هوياتهم قصد ما إذا كنّا ننتمي لنفس الهويّة القادمين منها، قد يفضي بنا في أحيان عديدة إلى قبول الدم إذا كان منبته هوية أخرى. ويا لمولد التراجيديا هذه، إنها تجعلنا محض إرهابيين مستقبليين.
ثمة فعلا عدمية تسكننا، تحركها نزعة الرعب أمام فرجة الدم، نتيجتها وقوعنا السهل كطرائد سهلة وبالغة الحمق في شراك السائد من تعاريف الإرهاب، ودعنا نقول، غضبيا الآن، إن هذا الوحش الدموي، تمكّن أخيرا من كسر أغلاله بدافع ما، وهذا مؤكد على ما يبدو، اذ صار المقدّس/ إسلاميا كان مسيحيا، محض حصان طروادة يشغله ذلك الدافع قصد تحريك مصانع الفتك، وتحت غطاء هوويّ، كسر أغلاله فصار يضرب الرؤوس أينما وجدت في الأرض، يتنقل دون جواز سفر معلن.
وكأنه، مجازيا، ينجح في اختراق المركزيات، بما يجعله أكثر حداثة من حيث السلوك لا الجوهر طبعا، اذ نتفق جميعا على أنّ الخاصية الإنسانية ترفضه. في المقابل، نزداد نحن، عفوا لسنا نحن، إنما فئة من الارذال فينا، انغلاقا، أجل فثمة انغلاق مفاده الخجل والهروب من الآخر الذي سحقه هذا المارد، ذلك أنّه ثمة اعتقاد بأنه مجرد أن يكون القاتل ابن هويتنا نكون مدانين.
هكذا ينمو فينا الإحساس بالذنب، فنحتقر خاصية هذه الهوية ونجلدها كثيرا مما يشرع للآخر حجته في غزونا من جديد: ألم تقدم الكولونيالية نفسها ضحية الإرهاب كثيرا حتى يتسنى لها ذلك، ها أننا نتحول إلى إرهابيين !!! لكن من صنف آخر، وهو أشد ضراوة، إذ بلا شكّ نكون في هذه الحالة قد مزّقنا أوصال هويتنا من باب تفوّق هوية الآخر، فنسقط من حالق تناسج السياقات الثقافية إلى حريم هجناتها.
ولأن المغالطة الكبرى تستمر، يكون الإنسان البسيط، العفوي، فريسة الوقوع في شراك القتل مستقبليا وبشكل سريع، فبما أننا صرنا غزاة لهويتنا، كما يشتهي الكولونيالي، ستنغلق أكثر، ولن تتفاعل مع مقدّسها من قبيل حس حواري، مما يجعل من ذاك الإنسان يشعر بالحصار، فيعيد تشغيل هذا المقدس من قبيل رفعه سلاحا وبالتالي فهو جاهز للقتل: أفلا نكون وفق هذا المقام عبارة عن مصنع نحن أيضا؟ مصنع يخصب فيروسات هذا المارد الإرهابي كي يتجدد جسده !!
- نعم، إنّنا نخجل من هذه الهوّية، ذلك أنّنا نجهلنا نتيجة كسل الذات التي طالما بحثت عن علّتها في الآخرين، وتجاهلت تراثها –لا نقصد هنا التراث في جوانبه الدينية: إنّنا نشير ضمنيّا إلى عظمة الفراعنة وأبراج بابل اللامعة وقصائد الصعاليك والمعتزلة وغير ذلك كثير- بوصفها مستقبله، ظنّا أنّها سترتدي ثوب الحداثة، ويا لوطأة الحقيقة المعرفيّة المرّة، إنّ تلك الحداثة –كما فكّكها الفيلسوف التونسيّ فتحي المسكيني، محض تتويج للديانات التوحيدية، لاهوتيّة خالصة، وبالتالي فإنّ الهروب من الذات إلى الآخر يظلّ محض حركة داخل نفس الملعب، سيّما وأنّ الإرهاب في جانب منه أيضا دليل قاطع على فشل الآخر ذلك.
- نخجل أيضا من جسد القاتل، بما أنّه منّا وحامل نفس الدمّ لملّتنا، ويا للوقاحة، ألم نكن ندرك أنّ هذا القاتل ما كان ليكون كذلك إلا لأنّه ثمّة أسباب عديدة، من بينها ما ردّده علينا صقر التفكيكية، الفيلسوف دريدا، بالقول إنّي كإرهابي لم أكن أجد طريقة غير تلك أمام إرهاب الكولونيالي وأنظمة القمع !!!. أجل ونخجل منه حين يقتل فنتبرّأ منه، ونسارع في الاعتذار وكأنّنا نحن من دفعه إلى ذلك، ونتجاهل أنّه ثمّة مافيا وتيتانات مختصّة في الرّعب ولعبة شطرنج دوليّة تحرّك هؤلاء القتلة.
- خجلنا، وهما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّنا أبرياء، فنركض إلى مبايعة الضحيّة، الضحّية التي تضحك بأسنان من كلاشنكوف وكاتيوشا وأربيجي، أفلم تكن هيّ صاحبة مصانع الأسلحة حيث دجّنت قطعان “البروليتاريا” فأنتجوا لها أدوات الدمار ثم صارت تسرّبه إلى هؤلاء الإرهابيين: كأنّنا ضمنيّا ندعوها لغزونا من جديد !!!.
- وإذا كنّا نتّفق أنّ الوجه الحداثيّ يشهد اليوم تحالفا مريعا بين الخرافة والعلم، خرافة المقدّس القديم وحداثة السلاح الجديد، الأولى جهتها إسلامية كما يصدّر لنا مغالطة، والثانية غربية بما يعنيه الآخر من تقدّم علميّ وتكنولوجيّ، أفليس من العار ادانة الله الاسلاميّ دون غيره المسيحيّ –هذا المختفي تحت أقنعة تلك الحداثة والمعاصرة-؟
ما يجعل من خجل هذه الهويّة يتضاعف، جهلنا المرّ، عفوا مرّة أخرى: لسنا نحن أصحاب هذا الجهل بل الأرذال منّا للأسف، لنتأمّل هؤلاء: رجال السياسة والإعلام والفن والفكر، إنّهم أشبه بمن يبني المستقبل عبر بوّابة القفز إلى الوراء، أصوليين جدا كما حدّث عنهم غارودي في كتابه “الأصوليات المعاصرة”، فقفزتهم تلك تبيح للإرهاب مشوار قطفه الرؤوس في جلّ أصقاع البسيطة، لا لشيء إلا لأنّهم محض عبيد لحركته، لا لحركة الهويّة.
- نعم، إنّ للهوية حركتها، فهي شبيهة جدّا «بمونادة» ليبنتز، تحنّ إلى موطنها الأوّل «مونادة كلّ المنودات»، وتتفاعل في ذلك بين بعضها البعض ولا تتناحر: هكذا تكون حركة الهويّة في تفاعلها وتعالقها مع هويّة أخرى في سبيل الموطن: بوصفه الجوهر الإنساني، كما تحنّ تلك المناداة إلى إلهها. وللأسف نحن إمّا نقذف بهويّتها للتعصّب والقتل، أو ندعو الهويّات الأخرى إلى طمسها مثلما يفعل الأرذال منّا في هذه المناحات.