الذين أسّسوا لمشروع «أيّام قرطاج السينمائية» لم يكن هدفهم تنظيم (مجرّد) «تظاهرة» لعرض الأفلام أو حتّى (مجرّد) «اللقاء»، بل جاء المشروع يهدف أو هو «سينما بديلة» تحقّق الاكتفاء الذاتي في مجال «صناعة السينما» سواء ضمن الفضاءين العربي والافريقي وبينهما وحتّى دول (ما يسمّى) «العالم الثالث» (حينها) في علاقة بمشروع «دول عالم الانحياز»…
رويدًا رويدًا، زحفت «الفرنكوفونيّة» على هذه التظاهرة، لتصبح «أمّ العروس» جهرًا ودون مواربة، بل هي من يقرّر في أدقّ التفاصيل، حين قابل «الغزو الفرنسي» (أو حرب الاسترداد لهذا العمق الاستراتيجي) سوى ما حملت تلك النفوس القميئة من رغبة في تحصيل المنافع (الشخصيّة) وكذلك البحث عن «مكان/مكانة» تحت شمس «الفرنكوفونيّة»، من باب السعي وراء «التمويل» أو مجرّد الحصول على دعوات لحضور المهرجات العالميّة…
قيادة الدورة الحاليّة «فرنكوفونيّة» حدّ النخاع، وكذلك لا تستحي من الأمر، بل تزايد فيه وتفاخر به، حين يتمّ دعوة «مدير الدورة» إلى منزل السفير الفرنسي (الجديد) لتمكينه من «وسام فرنسي»، لتُعلن فرنسا أو هي تلبّي نرجسيتها في إبلاغ العالم أنّها «على ترابها» بل أنّ «المشروع مشروعها»، من باب طمأنة «الذات» (الفرنسيّة) المهتزّة أصلا، وكذلك «تحصيل» صورة «المنتصر» أمام العالم…
الأمر لم يأت صدفة ولم يكن من باب العفويّة، حين تشتغل دوائر أوروبيّة عامّة وفرنسيّة خاصّة على تمويل أعمال سينمائيّة تونسيّة وعربيّة وافريقيّة، شريطة أن يوافق السيناريو ويتوافق مع الصورة النمطيّة التالية:
أوّلا: غياب «الأبّ» أو تغييبه من خلال تصرّف سلبي ومستهتر، حين يستحيل في جميع هذه الأعمال أن تبرز صورة «أب» (عادي) له إيجابيات وسلبيات، بل في جميع الصورة وكلّ الحالات يكون الأبّ «منهزمًا» وكذلك «مهوسًا» بالجنس وعديم الرحمة بعائلته، إن لم يكن ذلك «السكّير» الذي يعيش من عرق زوجته ويتمعّش من عملها…
ثانيا: حصر صورة المرأة بين نقيضين لا ثالث لهما، أو هي ضمن جميع الأعمال تأتي مخيرة بين هذين النقيضين، أيّ صورة المرأة المتحرّرة من جميع «ضوابط المجتمع» بموروثه الإسلامي وما هي أخلاق (هذا) المجتمع، سواء على ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج أو شرب الخمر علانيّة، في مقابل المرأة الخنوعة والمستسلمة، التي لا تغادر «الحجاب» من باب «الاستسلام» لسطوة هذا الأبّ المتسلّط والشريّر، والمجتمع المتحجّر والمنغلق…
هو مشروع كامل وخطة متكاملة، من أجل استعادة «المجد» الفرنسي في «مستعمرات» (سابقة)، لم يغادرها «الحلم الفرنسي» (قط)، لذلك جاء مدخل «الاستعادة» من باب «الثقافة» وكذلك عيّنت فرنسا رجل «ثقافة» سفيرًا لها في تونس، لتكون «الهجمة» (الثقافيّة) أشرس، حين لم يعد لفرنسا من مجال تدخّل سوى «الثقافة»، حين خسرت الأوجه الأخرى أو تكاد. المجال العسكري أساسًا…
من ذلك تحوّلت «أيّام قرطاج السنيمائيّة» من ذلك النفس «المقاوم للاستعمار» الثقافي عند الانطلاق زمن الراحل الفقيد الطاهر شريعة، إلى «محمية» فرنكوفونيّة صراحة برعاية فرنسية جهرًا، ومن ثمّة لا غرابة ولا صدمة حين لم يلق الوفد الجزائري وكلّ الوفود التي لا تروق لهذه القيادة الفرنكوفيليّة، ما يليق بالحدّ الأدنى من الاحترام
تحوّلت «أيّام قرطاج السينمائيّة» إلى مزرعة خاصّة لفروع اللوبي الفرنسي في تونس، ولم يعد لها من علاقة بما هي «الدولة الرسميّة» سوى ما تلزم به أولويات التعامل بين البلدان ومقتضيات التعامل البروتوكولي. هي «مستعمرة» ثقافيّة وسط «مستعمرة» (سابقة)، حين تخاف فرنسا وتغار على «متاعها» في تونس وفي كلّ مستعمراتها (السابقة) من باب استعادة مجد مفقود وسطوة تستدرك بعضا من بعضها…
لا يمكن بل يستحيل أن تأتي مسألة هذه «الأيّام» وما تعرف من فضائح، بمعزل عن تفتّت الدولة (أو تفتيتها) في تونس، سوى ما تعلّق بدور «الدولة» (القرار السياسي) الذي جاء أقرب إلى «الزوج المخدوع» المنزعج ليس من فعل «الخيانة»، بل (وهنا الخطورة) من تخطي «الفضائح» (بالجملة)، الحيز الضيّق إلى المجال العام.
جميع دول العالم الثالث خاصّة، لا تخلو من هذا «اللفيف الأجنبي» (الثقافي)، لكن لا دولة (دون استثناء) تحوّل فيها هؤلاء من مبدأ طاعة حكوماتهم إلى المجاهرة بمولاة المستعمر (السابق) إلاّ في تونس، حيث «بيع» الثقافة الوطنيّة جهرًا وتحطيم قلاع الصمود الثقافي في بعده الابداعي مستمرّ دون هوادة.
في قراءة منطقيّة ومقاربة عقلانيّة، يمكن الجزم أنّ الجريمة الأولى تعود إلى القرار السياسي المتوزّع بين التواطؤ والمشاركة وعدم ادراك مكامن هذا «الاستعمار» الثقافي (الجديد)، حين يخدع السياسيون الناس (وخصوصًا أنفسهم) بما يعلنون من «تعاون» مع فرنسا، لا يشكّ الساذج قبل الغبيّ أنّه في «اتجاه واحد» بل في خدمة «طرف واحد»، في تقاسم للأدوار بين من يموّل ويأمر في حين يتولّى الطرف الثاني الطاعة والتنفيذ، مع بعض الفتات وكثير من الإذلال…
من السذاجة أو هي السطحيّة التركيز (فقط وحصرًا) على الأخطاء الكثيرة والعثرات المتكرّرة لهذه الدورة، والبقاء أمامها في اندهاش أخلاقي وتعجّب من يعيش في كواكب أخرى على بعد سنوات ضوئيّة. ما نراه اليوم من «انقلاب» على روح الطاهر شريعة أوّلا، ومن تحويل منجز وطني ثقافي جاء (أصلا) لتكريس «الاستقلال» (في بعده السينمائي)، إلى رافد للفرنكوفونيّة وضيعة لموالي فرنسا واللوبي الذي يقتاد من على موائدها، لم يكن دون «قبول» أو هو «التسليم» من قبل «ماسك السلطة» في البلاد…
لم يعد السؤال عمّا تريده الفرنكوفونيّة عامّة وما تبحث عنه فرنسا، خاصّة سفيرها الجديد، القادم بقلم في يده اليمنى وكتاب في يده اليسرى، بل البحث في التأثيرات المدمّرة لهذه الهجمة على النسيجين الثقافي ومن ثمّة الاجتماعي…