دستور هذا، أم فريسة تهدّدها الضباع ؟؟؟

19 أبريل 2021

المعضلة التي أقامها الرئيس قيس سعيّد، عندما عمد إلى تأويل نصّي مباشر ولصيق للدستور، تأتي السبب المباشر لهذه العاصفة الهوجاء والزوبعة الرعناء التي أثارها الرجل، حين أمسك الطبقة السياسيّة بكاملها من نقط ضعف أو هي «عقب أخيل»، لمّا ادّعى أستاذ القانون هذا الذي جلس على قرطاج، أن بل هو اصرّ وألحّ على التقيّد بالمعنى اللغوي المبار لنصّ الدستور، أيّ اعتبار أنّ مجال نفوذ رئيس الجمهوريّة يشمل ويطول جميع الأفراد من جميع الأسلاك، الحاملة للسلاح أو التي يتطلّب عملها مسك السلاح.

hqdefaultبعيدًا عن الضوضاء والعاصفة التي قامت أو أثارها خصومه وأعداؤه وجميع من يقف في الصفّ المقابل له، يمكن للرجل أن يدّعي أنّه يتقيّد حرفيا بنص لم يساهم في تحرير فصوله، أيّ أنّه مجرّد «مطبّق لنصّ سبقه» ممّا يعفيه من أيّ مسؤوليّة عن أيّ «ثغرة» تركتها الجهة التي حرّرت هذا الدستور.

 تأويل لغويّ مباشر، أيّ أنّ «القوّات المسلّحة» تعني جميع «القوّات التي يمكّنها القانون من حمل السلاح»، وبالتالي تأتي وزارة الدفاع الوطني ووزارة الداخليّة وكذلك الديوانة [الجمارك]، ضمن النفوذ الذي أقرّه هذا الدستور لرئيس الجمهوريّة.

في المقابل، هناك وعي رُسم في الذاكرة الجمعيّة في البلاد، بناء على التقاليد التي أرسى دعائمها دستور 1959، مفادها أنّ رئيس الجمهوريّة يشغل منصب «القائد العام للجيش»، لنخلص إلى أنّنا نقف أمام قراءتين مختلفتين بل متناقضتين. لعب قيس سعيّد أستاذ القانون الدستوري، عندما راح في خطابه أقرب إلى المحاضر في جامعة من رئيس يدلي بخطاب، يبيّن لمن أمامه في القاعة من «الطلبة» (السياسيين خاصّة) أنّ الدساتير تؤخذ بالنص وأنّها أعلى مرجع في البلاد، ومن ثمّة هو لم يفعل سوى تقييدهم بحبل هم جاؤوا به إليه، أو هم من صنعه وفاخروا بفتله أمام العالم.

على المستوى الأكاديمي المباشر، وتركا لأيّ قراءة من موقع الخصومة مع الرجل ورغبة في التخلّص منه، الذنب كلّ الذنب يأتي على الجهة التي حبّرت دستور 2014، سواء جاء هذا «التعميم» أي الانتقال من «القوّات العسكريّة» إلى «القوّات المسلحة» مجرّد «سهو» لا غير أو هي «نيّة مضمرة» بملء الدستور بالقنابل الموقوتة التي ستنفجر في وجه السياسيين في قادم الأيّام.

يحقّ لقيس سعيّد ضمن المناخ العام الموبوء والقائم على التسريبات وعلى الطعن في الظهر والسياحة البرلمانيّة، حين غاب أو اندثر إلى وازع أخلاقي جامع، وإن كان في الحدّ الأدنى، أن يمارس ما مارس غيره من «انتهاز للفرص»، حين لا يمكن لأحد أن يتهم هذا الرئيس بالمسؤولية عن تحرير هذا الدستور «الملغوم».

من زاوية أخرى، وحين نعتبر أنّ أيّ دستور أو قانون بصفة عامّة، يأتي وسية لحسم الخلافات ومرجعا عند التباين في وجهات النظر، تبرز حقيقتان لا يمكن التغاضي عنها :

أوّلا : الدساتير لا يمكن أن ترقى للتقديس الذي يطول «النصوص الدينيّة»، بل هي قابلة للتنقيح والتعديل والحذف أو الإضافة، وفق ما تقتضيه الظروف والحاجة، ممّا يجعل منها «نصّا متحرّكا» وليس مرجعًا جامدًا.

ثانيا : لا قيمة لأيّ اتّفاق وبالأحرى أيّ قانون وفوق ذلك أيّ دستور، تذهب التباينات عند قراءته حدّا، يهدّد السلم الاجتماعيّة، بل قد يذهب في البلاد إلى مخاطر، أوّلها العنف اللفظي الذي تمارسه القيادات السياسيّة، المفتوحة على أشكال أخرى من العنف، خاصّة وأنّ البلاد تعيش حالة من التوتّر الشديد بسبب أزمة اقتصاديّة طاحنة معطوفًا عليها أزمة صحيّة، تتهدّد البلاد، ممّا يفتح الباب أمام احتمالات أحلاها مرّ…

في الأنظمة ذات التقاليد الديمقراطيّة الراسخة، سلامة البلاد واستقرارها أهمّ من أيّ نصّ قانوني مهما كان، ودليل ذلك أنّ المملكة متحدة، لا تملك دستورًا، بل هي تستند عوضًا إلى أمرين :

أوّلا : جملة أو هو عدد كبيرا جدا من الأعراف والتقاليد وما صار مألوفا، من تصرّفات أصبحت جميعها راسخة أكثر من أيّ دستور مكتوب في أيّ بلد فاخرت قيادته (مثل ما جدّ في تونس) بأنّها أنجزت «أفضل دستور في العالم».

ثانيا : أمام أيّ طارئ لم تشهده البلاد من قبل، ومن ثمّة لا تملك البلاد «تجربة» في التعامل مه، هناك من المناعة الجماعيّة، ما يجعل العثور عن حلّ والخروج بنتيجة والعثور على جواب، أعلى وأرقى وأرفع، بل وأبقى من جميع «الخزعبلات» التي قد يلجأ إليها أيّ طرف مهما كان لتحصيل أيّ مكاسب آنيّة.

الخلاصة والنتيجة، في ما يهمّ البلاد التونسيّة :

أوّلا : تقف البلاد فوق دستور ملغوم، انفجرت قنبلته الأولى عندما تجلّى التباين أو هو الانفصام بين نصّ دستور يجعل انتخاب الرئيس من خلال الاقتراع العام المباشر، في تعارض مع حجم الصلاحيات الضخمة الممنوحة لرئيس حكومة يختاره (كما هو الحال) رئيس الجمهوريّة… بالتالي، لا يعبّر نصّ الدستور عن شكل التوازنات السياسيّة القائمة.

ثانيا : السقوط في مستنقع التأويل، وإصرار طيف واسع على أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد يمثّل «العقدة في المنشار» الذي وجب التخلّص منه، بمعنى إزاحة الرجل. هذا التوجه الذي نراه، لا يعدو أن يكون تفكير «ضباع» (مع الاحترام للأشخاص والمقامات السياسيّة والإعلاميّة) لأـنّ التخلّص من الرجل وإزاحته، لن يمثّل «نهاية المطاف» بل مجرّد جولة من حرب، تليها جولات أخرى، تتخاصم فيها الأطراف التي تُخاصم قيس سعيّد لأنّ من السذاجة القاتلة والغباء المميت، أن نتخيّل لحظة واحدة أنّ «ّقوس قزح» هذا، يعادي هذا الرجل لوجه الله وحبّا للوطن.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي