تمّ الطلاق بيّنا لا رجعة فيه ولا تراجع عنه بين شقيّ النداء، وأصبح كلّ «شق» كيانًا بحاله، ومن ثمّة تغيّر المشهد السياسي في تونس، من وجود «النداء» في صورة الحزب «الأغلبيّ»، الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، وصاحب أكبر كتلة في «مجلس نوّاب الشعب» إلى صورة لم تتوضّح بعد، حين لا تزال مشاورات الكواليس وكذلك «الاغراءات» تفعل فعلها، لجعل النوّاب يختارون أيّ فريق من الاثنين، أو ربّما ذهب البعض في خيار ثالث، مثل الالتحاق بإحدى الكتل القائمة أو البقاء مستقلا، أو (ربّما) تكوين كتلة جديدة…
تغيّرات كبرى على المستوى الكمّي أوّلا وكذلك على مستوى «الصورة الافتراضيّة» لما هو عليه صورة «الموالاة» (الممكنة) وأيضًا «المعارضة» (المفترضة)، سواء قراءة للعداوات المفصليّة القائمة بين الكتل النيابيّة، أو موازين العرض والطلب عند «تفجير» كتلة النداء أو تشكيل الحكومة…
يمكن الجزم ـ حسابيّا ـ أنّ النهضة تأتي المستفيد الأوّل (حسابيّا على الأقلّ) من «كسر» النداء، عندما ستصبح هذه الحركة، «صاحبة الكتلة الأكبر» (عدديّا) في «مجلس نوّاب الشعب» ومن ثمّة «المكلفّة» (افتراضيا) بترشيح من تريد لرئاسة الحكومة.
علينا التمييز عند هذا المستوى، بين مرتبتين:
أوّلا: البعد الكمّي المميّز للعبة الديمقراطية: بدءا بالاقتراع، مرورًا بالانتخابات ذاتها، وصولا إلى تشكيل المجلس النيابي، بما تحمل (نتيجة الانتخابات) من موازين قوى بين الأطراف المتحالفة والمتصارعة، ومن ثمّة يمكن (وفق علم الحساب) قراءة أو استشراف كلّ «التشكيلات» (الممكنة) القادرة على تخريج حكومة تحظى بثقة «مجلس نوّاب الشعب»، وهو الشرط القانوني لأيّ حكومة لنيل التزكية.
ثانيا: البعد الاعتباري: وهو لا يقلّ «خطورة» عن البعد السابق، لأنّه ثبت بالدلائل الماديّة القاطعة، أنّ «موازين القوى الديمقراطيّة» عاجزة عن صياغة «الاستقرار»، فما بالك بهذا «التحوّل الديمقراطي» (المنشود)، ومن ثمّة، كمثل ما تفعل الأمّهات التونسيات، من خلط «زيت الزيتون» بالزيت المسمّى «زيت الحاكم»، تستحقّ تونس وتحتاج إلى «جرعة» ممّا يسمّى «الديمقراطيّة التوافقيّة»، علمًا أنّ طالب سنة أولى علوم سياسيّة في أيّ جامعة غربيّة، سينفجر ضحكا وربّما مات ضحكا، حين لا يعتقد أحد في هذه «الديمقراطيات المستقرّة» أو يتخيّل أنّ على الطبقة السياسيّة أن تمارس «التحيّل» (وهو تحيّل فعلا) لتجاوز «الديمقراطيّة الكميّة» إلى هذا «اللقيط» (فعلا) الذي يجعل «الخاسر في الانتخابات» يجلس إلى نفس الطاولة أسوة بالفائزين، كما حدث أثناء «الحوار الوطني»…
كمثل الأفلام «ثلاثيّة الأبعاد» التي يحتاج المرء لمشاهدتها إلى نظارة خاصّة، تحتاج «الديمقراطيّة التونسيّة» إلى منظار خاصّ لفهمها. ديمقراطيّة يصنعها الصندوق، لكنّها تبقى كمثل «الجنين غير المكتمل» في حاجة إلى «حاضنة» خارج بطن الأمّ، كمثل ما تحتض هذا «التوافق» الديمقراطيّة خارج الصندوق…
هناك خديعة كبرى، تمارسها الأحزاب جميعها، حين تقول وتعترف وتصرّ بل تفاخر أنّ هذه «الديمقراطيّة التشاركيّة» تأتي «مساعدًا» بل عونًا ونصيرًا لهذه «الديمقراطيّة الكميّة»، ومن ثمّة (نظرًا لضعف التجربة الديمقراطيّة في تونس، وما شابه من الكلام)، يتمّ اللجوء إلى «التوافق».
كلام جميل في ذاته، مطمئن بفعله، وقادر على تأمين الوضع في البلاد، أو على الأقلّ ضمان عدم الانفلات نحو الأسوأ، أوّلا، وقادر (وهذا لا يقلّ قيمة) على طمأنة الجهات التي يهمّها الاستقرار في تونس…
الخديعة ليس في هذه «المساعدة» (في ذاتها)، بل أنّ «هذه المساعدة» تحوّلت أو هي بدأت تتأصّل في صورة «الأصل» أو «الثابت» التي لا يجوز التغاضي عنه، خصوصًا (وهنا الإشارة شديدة الأهميّة) أنّ «المجتمع الدولي» أهدى «جائزة السلام الدوليّة» إلى الجهة التي أسّست لتجاوز «المجلس التأسيسي» (الديمقراطيّة الكمّ) إلى «الحوار الوطني» (ديمقراطيّة التوافق)، علمًا، وأنّ «الحوار الوطني» جاء «راعيًا» (والكلمة له) أيّ بمعنى «الوصاية»، التي تتنافى (معرفيّا) مع «الديمقراطيّة الانتخابيّة»، حين تشترط «الرعاية» (بالمفهوم الكنسي) «عدم أهليّة» الجهات التي أتت بها «ديمقراطيّة» (الكمّ)…
هي حكاية من حكاية جحا، أو ما شابه، حين يأتي «التخريج» (اللغوي) وفتاوى «التلفيق» أهمّ وأقوى وأبقى من أيّ ديمقراطيّة انتخابيّة… من ثمّة لا أحد فعلا في تونس يطلب من هذه «اللعبة الديمقراطيّة» (العرجاء) أن تبني «الديمقراطيّة» (فعلا)، بل المطلوب منها (حقيقة) تأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني وكذلك الحدّ الأدنى من النشاط الاقتصادي الضامن بدوره للحدّ الأدنى من الاستقرار الاجتماعي، أيّ صارت البلاد تريد الهروب ممّا تخاف وليس نيل ما تطلبه فعلا (الذي من أجله ثار الناس).
أيّ أنّ «ديمقراطيّة التوافق» تأتي أشبه بما تملك السيّارة من «تأمين» ضدّ حوادث السرقة وغيرها….
كذلك ما يمنع من تقديم قراءة دقيقة للوضع في تونس راهنًا، هو كثرة «المتغيّرات» وعجز أيّ جهة على تقديم صورة واضحة للمشهد القادم، سوى معالم عامّة ومقاربة واسعة، حين لا يمكن تقدير عديد الأمور وكذلك لا يمكن لأيّ كان أن يجزم بعدم قيام أحداث أخرى تؤثّر في المشهد أو هي (كمثل الضربة القاضية في مباراة ملاكمة) قد تقلب الوضع تمامًا أو ربّما تعيد عقارب الساعة إلى الصفر أو إلى ما دونه…
من كان عند اعلان نتائج الانتخابات التشريعيّة وفوز النداء ودخول الحركة في حالة من الزهو الطبيعي والنشوة المعقولة، يقول أنّ هذا الحزب سيطعن ذاته بذاته، ويدخل في عمليّة «قسمة قيصريّة» جعلت الطرفين أضعف من ذي قبل، وجعلتهما في حال من الوهن الذي لا يمكن نكرانه، سواء على مستوى صورة كلّ «شقّ» أو دوره على الخارطة القادمة، أو (ما هو أخطر) الأمل في تحصيل نتائج جيّدة في الانتخابات القادمة (مهما كانت هذه الانتخابات)؟؟؟
من السطحيّة القول أنّ «فيروس» الانشقاق ضرب النداء بمفرده، النهضة هي الأخرى أمام «أسئلة وجوديّة» وكذلك «تساؤلات إيمانيّة» على قدر كبير من الخطورة، في حين أنّ الأحزاب الأخرى (بدون استثناء) تأتي أشبه بقهوة تغلي على النار، حين نرى «ارتفاعًا» أحيانًا، لكنّه (قد) يفيض ويجعل الجمر إلى رماد…
24 تعليقات
تعقيبات: buy fjallraven online
تعقيبات: true religion online shop
تعقيبات: korle聽millet聽in bangalore
تعقيبات: ralph lauren store