إعلان راشد الغنوشي أو بالأحرى تراجعه عن توصيف ما أقدم عليه قيس سعيّد بتفعيل الفصل 80، دون «الانقلاب» وتراجع مجلس الشورى عن ذلك، لا يدلّل فقط عن حال التخبّط الذي صارت فيه الحركة، بل الأخطر من ذلك أن قيس سعيّد، عن راية وتخطيط أو لعوامل داخل النهضة، استطاع أن ينقل التناقض الذي قام بينه وبين رئيس حركة النهضة وتعمّق بفعل «الانقلاب» إلى تناقض بدأ داخل صفوف النهضة، ومن المنتظر ألاّ يجد له حلاّ (سريعًا) يرضي جميع ألوان الطيف داخل صفوف الحركة، بل سيتواصل صدى هذا «الانقلاب» (داخل النهضة) إلى حين، مع ما نتخيّل جميعًا من آثار ستجعل هذه الحركة تخسر كثيرًا.
حين نوسّع مجال الرؤية ونعمّق دائرة التحليل، نتيقّن أن قيس سعيّد وضع منذ تفوه بالكلمة الأولى يوم 25 جويلية، جدليّة العلاقة بينه وبين غريمه راشد الغنوشي ضمن منطق «النفي القاطع»، ومن ثمّة يأتي رفض «الاخشيدي» لمنافسه «الشيخ التكتاك» نفي وجود بالكامل، في حين لا يزال الغنوشي يحاول من خلال التنازل جعل الأمر أو الرجوع به إلى منطق «صراع الحدود»، أي بالتنازل حينًا وبالتأويل أحيانًا أخرى، يمكن (وفق منطق شيخ النهضة) الوصول إلى «حلّ» ما، يحفظ ماء وجه الطرفين والغنوشي على وجه الخصوص… إلى حين تغيٍّر موازين القوى.
حديث قيس سعيّد في عقر وزارة الداخليّة عن «المنافقين» وعن «عيد الله بن سلول» بالذات، يشكّل «انقلابا» أو بالأحرى استحواذا على أحقيّة «التأويل الديني» مع ما ينجرّ عن هذا التأويل من اقصاء لحركة النهضة، المقصودة دون غيرها بالتوصيف، بل أبعد من ذلك العود أو بالأحرى تأصيل العلاقة بينه (أي قيس سعيّد) مقابل راشد الغنوشي ضمن دائرة «الولاء والبراء» وكذلك «الإيمان مقابل والشرك»، ممّا يستوجب العمل بما جاءت به «الشريعة الاسلاميّة»، بدءا بما هو «اسلم تسلم، يؤتيك الله أجرك مرّتين»، والتسليم هنا بالمعنى الذي يقرّره قيس سعيّد، أو هي «جزية» بمعنى مغادرة للمشهد السياسي، وثالثا قتال حتّى يبيّن الله أمره.
نقف وبالأخصّ تقف البلاد أمام نموذجين من التفكير غير قابلين للتقاطع بمعنى قدرة الوصول إلى جذر مشترك، يمكن البناء عليه واعتماده لقيام صلح بين الطرفين، يذهب بالبلاد والعباد بعيدا عن حال التوتّر المزمن الذي تعيشه تونس منذ سنوات. فقط أقصى ما يكون، لن يكون أفضل ممّا كان، أي تقليب للأوضاع على وجوه عدّة دون العثور أو الوصول إلى «حلّ» (أي حلّ كان).
خطورة الصراع بين الطرفين تكمن على درجتين :
الدرجة الأولى : تمكّن قيس سعيّد المتواصل والذي لن يتوقّف من مفاصل الدولة، مع وجود عمق شعبي غير هيّن يسانده، كما غاب «التنديد» الإقليمي والدولي بهذا «الانقلاب»، حين لم تبد أيّ دولة رفضا قاطعا وجازما لما جدّ في تونس.
الدرجة الثانية : الصراع الدائر بين صفوف حركة النهضة، مع غياب الحدّ الأدنى من التجانس، خاصّة مع إصرار الغنوشي على البقاء وأكثر من ذلك، سعيه (كما يفعل دائمًا) إلى «تفتيت» الخلاف، والوصول بالتالي إلى «نقاط تقاطع» وإن كانت وهميّة أو حتّى مصطنعة.
هناك يكون السؤال الحازم والقاطع : لمن يلعب عنصر الزمن، سواء اعتبرنا أنّ عدّاد قيس سعيّد، أشبه بالساعة الرمليّة، سيتوقّف عند تاريخ 25 أوت القادم، أو أخذنا الأمر دون حدود؟
الإجابة عن السؤال تستدعي الغوص في غياهب عديدة :
أوّلا : قيس سعيّد بصدد مسابقة هذا الزمن، سعيا وراء «احتلال» أكبر عدد ممكن من المناصب والسيطرة على مراكز النفوذ الفاعلة والفعّالة، ومن ثمّة تحقيق هدفين : أولهما «استبعاد المتسلّلين» (كما أعلن من داخل وزارة الداخليّة)، وثانيا الاستعداد لأيّ طارئ مهما كان، لأنّ اليقين لديه أنّ الوصول إلى مرحلة «الاستقرار» يتطلب جهدا وكذلك الكثير من «الوقت»،
ثانيا : تعدّد المواقف وتضارب الآراء داخل النهضة، وأخطر من ذلك تضارب اقتراحات الحلول، بين من يرى أنّ الوضع يستوجب تناسي جميع المشاكل الداخليّة ومن ثمّة الوقوف وقفة الرجل الواحد وراء «الزعيم» (أي راشد الغنوشي)، في حين يرى أخرون ويؤكدون استحالة انطلاق قطار النهضة، دون إتمام عمليّة جرد كامل ومحاسبة دقيقة وإجراء عمليّة نقد ذاتيّة دون حدود، تتمّ على أساسها محاسبة من أوصلوا الأمر إلى هذا الحال، وتحميلهم المسؤولية كاملة، مع يعني ذلك من استقالات وتنحية العديد، إن لم نقل الرفت والاقصاء.
ثالثًا : محيط إقليمي ودولي، بين من يريد دفع الأمور في الاتجاه الذي يريده، وبين من يسعى إلى اقتناص الفرص، وما هو تداخل أكيد مع الصراع الداخلي، حين بدأت تونس منذ 25 أوت (مهما كان موقف الداخل) تتأكد في صورة جبهة صراه بين أقطاب عديدة.
من ذلك، يبدو جليا أنّ النهضة وزعيمها راشد الغنوشي، أمام أزمة ترتيب الأولويات، بين من يرى (إعادة) ترتيب البيت الداخلي أهمّ وأبقى، بغية التقليل من الخسائر، ومن ثمّة التخلصّ من شوائب الماضي، والانطلاق بما يمكن أن نسميها «نهضة» جديدة، تبحث لذاتها عن وجود ومن بعد ذلك تسعى (أسوة بجميع الأحزاب) إلى توسيع مجال النفوذ، وبين «المرجئة» الذين لا يرون النهضة دون راشد الغنوشي.