يمكن الجزم دون أدنى شكّ أنّ إيطاليا (البلد والشعب والثقافة والحضارة) فقدت برحيل «أمبرتو أكّو» عالمًا موسوعيّا، وناقدًا متميّزا وروائيّا استطاع أن يخطّ اسمه عاليا، دون مقارنة مع الأسماء الأخرى…
هو خاتم جيل بأكمله، جيل مطالعة الكتاب والادمان على ذلك حبّا في الثقافة وتقديسًا للمعرفة، دون غايات أكاديمّية محدّدة ودون التقيّد بالضوابط المهنيّة (أيّ البحث والتدريس)، ممّا جعل منه «جامع علوم عصره» كما قالت العرب قديمًا…
رحل «أمبرتو أكّو» عن سنّ 84 سنة بعد صراع طويل وصامت وبعيد عن الأضواء مع السرطان، بعد أن طبع الثقافة الإيطاليّة والغربيّة عمومًا بمسحة من الجدّ الممتنع والصرامة الأخلاقيّة البسيطة، حين ملك قدرة عجيبة على أمرين:
أوّلا: قدرة الكتابة عن أيّ شيء أو أيّ حادثة أو أيّ موضوع من «منظور علمي» صارم ودقيق، كمثل انجاز مقال عن ألوان واجهة دكّان والذهاب بالقارئ إلى الدلالات والاسقاطات، في مرور عبر الموروث البصري، دون أن ينسى «دكتاتوريّة الصورة» أو هو «التلاعب» بالألوان والأضواء، خدمة للمال عامّة والتجارة على وجه الخصوص.
ثانيا: قدرة الكتابة عن أيّ موضوع في جمع رائع وممتع وجميل، بين ما كان منه من «صرامة» معرفيّة، وما هي من «لغة» بسيطة، قادرة على اكتساح العقول واكتساب قراء جدد، أبعد ما يكون عن «النخبة» (المثقفة، المتعلّمة أو الجامعيّة) المعنيّة (افتراضًا) أكثر من غيرها بكتاباته.
خلافًا لأجيال من المثقفين العرب الذين ينأون بأنفسهم عن الكتابة في مواضيع «شعبيّة» أو ما يشد اهتمام عامّة الناس، كان الرجل شديد الولع بكرة القدم (مثلا)، لا يتوانى عن الذهاب إلى الملاعب، بل وصلت به الحماسة عند مناقشة الموضوع على احدى القنوات، أن نزع سترته وعدّل من جلسته ليعبّر عن حماس أكبر وحبّ أشدّ لهذه اللعبة وفريقه بالخصوص…
استطاع من خلال ركنه الاسبوعي «كيس مينارفا» (أي الحكمة) الذي تحوّل إلى نصف شهري، في مجلة «لسبرسّو» أن يكون أحد أكثر الصفحات مطالعة بل انتظارًا من القراء. قراء لا يملكون بالضرورة ذلك المستوى الأكاديمي أو الكمّ المعرفي أو حتّى المستوى الدراسي بالضرورة، فقط كما قال هذا الكاتب: «أكتب عن أشياء يمرّون أمامها كلّ يوم دون القدرة عن وصفها»…
ملك «أمبرتو أكّو» قدرة على تحليل الواقع وطاقة على تفكيك ما نعيش كلّ يوم، ممّا رفعه من رتبته الأكاديميّة الأكيدة، إلى عالم موسوعي، بل هو «المشّرح» (من التشريح) القادر على الغوص في «الأشياء البسيطة والعاديّة» والخروج منها بما يشبه «المتاهات المعرفيّة» (اللذيذة)، القادرة، على جعلنا لا نمرّ أمام ذات الأشياء أو أخرى مشابهة دون أن تجول بالخاطرة تلك الأسئلة، أو هي الأسئلة وكفى…
ملك الرجل نظرة ناقدة وشديدة لعالم الأنترنت واعتبره وسيلة تبليد للفكر وهبوط بالمستوى العامّة درجات إلى أسفل ممّا هو قائم، حين يعتبر (والكلام له) أنّ قدرة الانترنت على استسهال «التعبير» يجعل من التعبير (ذاته) غاية وليس المعنى الذي يحمله هذا التعبير، ممّا يذهب بالمعاني عادة (وفق رأيه) إلى متاهات أو هي ما يشبه الفوضى، التي لا تنفع «طالب العلم» ولا يستفيد منها «من يسدي» (هذا العلم)…
أحاديّة أنظمة التعليم، وذلك المسعى المحموم نحو «الاختصاص» أي حصر المعرفة الأكاديميّة ومن ثمّة المهنيّة داخل اختصاص بدأ يضيق مع مرّ الأيّام، تأتي تأثيراتها خطيرة على العلماء «العلماء» (بحسب أمبرتو أكّو):
أوّلا: تحوّل العالم من منتج للمعرفة ورائد على مستوى جمع المعلومات والتحليل والقرار، إلى «هيكل» أحادي الرؤية.
ثانيا: تنحدر بالعقل البشري من القدرة على التحليل، بل التفكيك إلى «جملة من الثنائيات» لا يزيد دور (هذا) العالم عن الربط بينها.
هو رجل ينتمي جهرًا إلى «الفكر اليساري» على مستوى الواقع السياسي الإيطالي وكذلك العالمي، بمعنى المرجعيات الفكريّة والمقاصد الحضاريّة، دون أن ينخرط فعلا ومباشرة في أيّ تنظيم سياسي.
شاع اسم الرجل واشتهر (خارج ايطاليا) في صورة «الروائي» الذي استطاع أن يخترق «النجوميّة» في سرعة غريبة، ليس فقط لفرادة المواضيع، بل لأنّه بهذه الروايات، لم يفعل (وفق رأيه) سوى ما كانت تفعله جدّها بحكاياتها، أي جمع بين «لذّة المطالعة» (أي قراء لغة جميلة أو هي لذيذة) وكذلك «لذّة الاطلاع» (أي التعرفّ على «حكاية» تدفع للتفكير وتحثّ على استكمال المعرفة)…
لم يكن الرجل مغرمًا أو معنيّا بما هي «لعبة الجوائز»، عندما شرّح معناها وذهب تفصيلا في رفضه للتنميط في مجال «الإبداع» بل كتب أنّ «التجارة بصدد قتل الابداع»…
رحل هذا الكاتب الذي يمكن الجزم أنّه «أخر عنقود» في مدرسة «تقدّس الكتاب» وكذلك «تجلّ المعرفة»، بل تجعل من «الثقافة» أشبه ما يكون بذلك «الوعي» القادر (دون ربط آلي) على جعلنا نرى (كما يقول) «الدنيا أخرى»…