من يراجع بمنطق المسح العلمي والقراءة الأكاديميّة المتأنية لمجمل التصريحات الصادرة عن الطبقة الأولى والفاعلة في الجزائر، عن «الشأن التونسي» يلاحظ منذ البدء وبصفة غالبة أو هي مسيطرة إن لم نقل الكاسحة، حديثًا عن «تونس» (البلد والدولة)، في غياب تامّ تقريبًا، بل (ربّما) هو «الإهمال المقصود» إن لم يكن المتعمّد، لأيّ حديث عن «قيادات» (هذا) «البلد الجار» من أيّ مستوى كان، الذي تحوّل منذ 14 جانفي 2011 إلى الهاجس الذي تتقاطع عنده الهواجس السياسيّة والعسكريّة كما الأمنيّة والمخابراتيّة الجزائريّة…
من ذلك الجزم أنّ الجزائر (العقل السياسي والعسكري والأمني والمخابراتي) يقف أما ما يمكن أنّ نسميها «المسألة التونسيّة» شبيهة أو هي أشدّ تعقيدًا من المسائل الأخرى التي واجهته منذ نوفمبر 1954، على اعتبار أنّ الإجماع قائم داخل مختلف درجات هذا العقل أنّ التهديد قائم وبشدّة عبر الحدود المشتركة مع «جار الشرق» وكذلك (وهذا الأهمّ) يأتي الخطر متراوحًا (أشبه بالطيف اللوني) بين ما تضمره القيادة التونسيّة (أو جزءا منها على الأقلّ) من «شرّ» للجزائر، وكذلك (وهذا الأخطر) امكانيّة ذهاب تونس أو (بالأحرى) انحدارها نحو «مستنقع صومالي» تتحوّل البلاد (بما فيها) إلى «منطقة تغييب فيها السلطة»، وتنقلب (من ذلك) إلى نقطة جذب لكلّ أنماط «الإرهاب» وكذلك «الجريمة المنظمة» دون أن ننسى «الهجرة السريّة»….
قبل أن تطأ رجل الباجي قائد السبسي أرضية مطار هواري بومدين، في زيارة إلى الجزائر تكون يوم الخميس المقبل وفقا لبيان صادر عن الرئاسة التونسية، ستكون زيارة التقاط الصور وتوزيع التصريحات الرنّانة وأساسًا ذلك المسعى (من الطرف التونسي) لإيقاف «جدليّة» التاريخ القائم من خلال المزايدة أو هي القيمة الفائضة (عن الحاجة) من النوايا الملائكيّة…
يستحيل لمن يلتفت إلى مجرى العلاقات بين البلدين (منذ 14 جانفي 2011 على الأقلّ) أن يصدّق لحظة واحدة أو لمجرّد شطحة خيال، ما سيصدر أثناء هذه الزيارة من «نوايا»، حين وجب الاعتراف، أنّنا أمام كمّ هائل من التناقضات، سواء الفلسفيّة أو البنيويّة أو حتّى الوظيفة، سواء ما تعلّق بهويّة الدولة ومفهومها، أو دورها ومهامها، أو حتّى مفهوم البعد الأمني لسياسة «الجوار» لدى الطرفيّن:
أوّلا: مفهوم متناقض لما هو «الإرهاب» بين البلدين، ليس على مستوى التعريف اللغوي أو حتّى السياسي والقانوني، بل المقاربة السياسيّة للمسألة، حين تجاوزت الجزائر منذ تسعينات القرن الماضي المعركة (على طريقة دون كيشوت) مع «مظاهر التدين»، في حين لا يزال «العقل» الماسك لملفّ الإرهاب في تونس، ليس فقط يخلط بين الإرهاب والتديّن، بل هناك من الأصوات الإعلاميّة والسياسيّة، وخاصّة الأمنيّة (قيادات النقّابات الأمنيّة على المنابر الإعلاميّة) تعتبر «مجرّد التديّن» مدخلا أو هو قرين «الإرهاب»، بل تطالب بمحاربة «التديّن» على اعتباره «قرينة إرهاب» ثابتة…
ثانيا: رغم النفي الذي أصرّ عليه الباجي عبر اطلالاته التلفزيونيّة، وذهاب مسؤولين أخرين نحو «تهدئة الخواطر» يعلم الطرفان أنّ بقاء «شعرة معاوية» مرتبط بل مشروط، بوجود «أمل جزائري» سواء (من باب التفاؤل) بتحسّن الأمور، أو (من باب التشاؤم) عدم ذهاب الأمور إلى ما هو أشدّ سوءا (من الراهن).
ما يقلق الطرف الجزائري أمام المشهد التونسي، هو التداخل بين درجات الخطورة في الملفّ، وأساسًا أنّها معادلة يتداخل فيها «الخطر» بين درجتين «متناقضتين» (وفق المنطق الطبيعي):
أوّلا: ما تقدم عليه (بعض) القيادات السياسيّة، من «خطوات» تراها الجزائر بعين اليقين أنّها «عدائيّة» بل تشكّل خطرا استراتيجيا وكذلك عاجلا على أمن الجزائر، أساسًا قيادات من الصفّ الأوّل، أيّ الماسكة للقرار السياسي والعسكري والأمني
ثانيا: (وهذا لا يقلّ خطورة) أن تونس سائرة في طريق الفوضى، وفق أبسط القراءات التي لا تحتاج إلى تمحيص شديد، سواء على مستوى التحلّل الأفقي للدولة، أو التفتّت الأفقي للمجتمعي، أو انفصام الرابط (في حدّه الأدنى) بين دولة تتحلّل ومجتمع سائر إلى القطيعة والفوضى…
يستحيل على «البلاغة التونسيّة» أن تجعل العين الجزائريّة لا تصدّق ما رأت أو أن تذهب بالأذن الجزائريّة عكس ما سمعت، بل أقصى ومنتهى ومطمع الباجي من الزيارة، هي التمتّع بأقصى درجات «التخفيف» بمعنى أنّ «نواياه سليمة» في حين أنّ «الفعل» (أي الطائرات دون طيّار، والوجود العسكري الغربي، وكذلك عودة الارهابيين) تدخل جميعها ضمن خانة «الفعل بالإكراه» وليس من باب «المتعة» أو أيّ «لذّة» كانت…
لا حاجة لسؤال أيّ مسؤول جزائري من أيّ مستوى كان، سواء ماسك الملفّ السياسي أو القرار العسكري أو التحليل المخابرتي، عن منتهى العلاقات مع «جار الشرق»، الذي سيتحوّل (وفق القراءات جميعها) إلى ما يشبه «الملفّ المغربي» إن لم يكن أشدّ خطورة بل أكثر سخونة، إن نقل أشدّ قابليّة للانفجار، حين لا يزال (بعض) الجيل الماسك للسياسة في الجزائر يحفظ «ذكريات» حرب التحرير واختلاط الدماء في ساقية سيدي يوسف، في حين أنّ جيل «ما بعد الثورة» هو (وفق أحد أفراد هذا الجيل) يعتبر تونس، مجرّد «لون على خارطة» (والتعبير له)، تخضع (فقط وحصرًا والتعبير له دائمًا) إلى منطق «المصلحة» ولا شيء غير (هذه) «المصلحة» دون غيرها.
يمكن الجزم أنّ ما سيقوله الباجي قائد السبسي في العلن، لن يخرج عن أبجديات يمسك ناصيتها أقلّ المراقبين دربة، لكن ما سيسمعه «شيخ قرطاج» في اللقاءات المغلقة يأتي أشدّ أهميّة، بل هو السبب الرئيسي للزيارة، حين لا مصلحة للطرف الجزائري من هذه الزيارة (حين نتجاوز صور البروتوكول والتصريحات الرنّانة) سوى أن يتلقّى الباجي انذارًا بأنّ «شعرة معاوية» قاب قوسين أو أدنى من أن تنقطع، دون رجعة…