ما أوردته الفنّانة زينة القصرينيّة عن رأيها في الغناء وما هو الموقف المستبطن في داخلها عن «صوت المرأة»، على اعتباره «عورة»، وبالتالي ما هو تعارض بل تصادم إن لم نقل قطيعة بين «مسيرة غنائيّة» (حافلة) عايشت في ألم أكيد هذه «القناعة»، التي تستلزم التوبة، جميعها وغير ذلك كثير، من الأمور التي تجدّ عشرات المرّات في اليوم داخل هذا المجتمع والمجتمعات الشبيهة. حين يأتي «الاسلام الاجتماعي»، أي ما يحمل الفرد من معتقدات يتقاسمها مع عمقه الاجتماعي، تتناقض أحيانًا مع ما يأتي من ممارسات بصفة مسترسلة أو ظرفيّة، أقرب إلى الايمان الفطري الذي قد يخبو دون انقضاء، وهو جامع لأطياف مجتمعيّة عديدة، وقادر على الاستيقاظ في لحظات، ليتحوّل إلى تيّار هادر، جامع سواسيّة، «المتديّن» (أو حامل صورة التديّن) بمن يقدّم ممارسات بعيدة عن هذا «التديّن».
أهمّية «مسألة زينة القصرينيّة» تأتي من أنّها شخصيّة عامّة بل شهيرة ومن وجوه الفنّي الشعبي، وقد اعتادت تقديم «الفرجة» (الغنائيّة) وتأثيث برامج تلفزيونيّة خاصّة أو التلفزيون من يملأ بغنائها أو شخصها فراغه. التصريح/الصدمة لا يعدو أن يكون «فرجة» لم يستطع هذا الإعلام تفويتها أو المرور أمامها مرّ الكرام. حين لا يمكن للماكينة الإعلاميّة أن تتغاضى عن مثل هذه التصريحات، التي تأتي بالمفهوم الإعلامي «ثريّة» وقابلة للتطوير أو هو التمديد.
التناول الإعلامي لهذا التصريح «المفاجئ» طبيعي وعادي، أي بمعنى نقل الخبر والتعاطي معه في صورة «المفاجأة»، لكنّ الصادم، يكمن في محاكمة «النوايا» وكذلك تجريم المقصد ليصل الأمر حدّ تنزيل المسألة ضمن الصراع المزمن والأبدي بين نقيضين على المستوى الايديولوجي ومن ثمّة الوجودي، أيّ «الظاهرة الدينيّة» في مقابل «الظاهرة العلمانيّة» (على النمط الفرنسي). بلوغًا حدّ نسبة تصريح هذه المرأة الذي لا يمكن مناقشتها مبدأ حرية اختيارها نمط حياتها، إلى (ما يسمّى) «داعش»…
توسيعا لدائرة الرؤية وتعميقا لأبعاد التحليل، يلاحظ المراقب العادي أنّ «الإعلام المسيطر» عاد بالتصريح إلى مربّع الصراع «الحامي» حول الدين/التديّن ومكانة الدين في المجتمع وحظّ التديّن في تسطير القوانين وإقامة المرجعيات الاعتباريّة الضابطة لنمط المجتمع. هي غريزة لدى هذا الاعلام، سواء بحكم دُربته وما تعوّد من أمره، أو لقدرته على بيع (هذا) «التناقض» اعلاميّا، بل التمعّش منه سواء بالحفاظ على «حرفائه» أو جلب الإعلانات، دون أن ننسى خدمة نمط مجتمعي لا يخفي هذا الإعلام بل هو يفاخر بمناصرته وبالتالي محاربته.
جريمة زينة القصرينيّة الأولى والأهمّ أنّ خرجت عن «الصفّ»، أيّ صفّ التنميط الإعلامي الذي صنع لها مربّعا تشتغل ضمنه وحيزًا تتحرّك داخله، أسوة بجميع الطيف الفنّي والثقافي وحتّى السياسي بأبعاده، حين يسهّل هذا التنميط أو هو يضبط دلائل الاستغلال الفرجوي لهذه الفنّانة وغيرها من ذات المهنة، وكذلك (وهذا الأهمّ) لا يتمّ الخروج عن هذا «التنميط» إلاّ بمقدار محسوب وقرار مسبّق، مثل أن يقدّم «مزاودي» رأيه في التفاصيل الدقيقة لما هي التنمية الاقتصاديّة ليس من باب ممارسة الحقّ في التعبير بل (وهنا الخطورة)، تحويل موقفه وتفعيله على أنّه موقف كلّ من يرون في هذا «النجم» قدرة ومثالا وسراجا منيرًا…
الصدمة وما تبعها من «تشهير» بهذا القرار الذي لا يتجاوز (ضمن ضوابط الأخلاق) الحقّ الذاتي، يعبّر عن الصراع أو هو الانفصام بين هذا «الاسلام الاجتماعي» وما هي «يقظة الإيمان» فيه لينقلب المرء من النقيض (المنفصل ممارسة عن «التديّن») إلى النقيض (الانخراط بالكامل ضمن ممارسة التديّن، أو على الأقلّ الإعلان عن ذلك)، ليستمرّ الصراع أو هي تجليات الانفصال الاجتماعي بين هذا «الايمان الفطري» من ناحية، مقابل «خطاب الدولة» وخاصّة اعلامها، الذي لم ينفك منذ دولة الاستقلال الداخلي سنة 1955، عن السعي الدؤوب لصناعة المجتمع وصياغته وفق «النمط التحديث» (القصري)، إلاّ أنّ المتابع العادي، كما الباحث الأكاديمي يرى بل هو اليقين بوجود مجتمعين أو هما كتلتين يتراوح بينها المجتمع:
أوّلا: كتلة تتماهى مع «الخطاب الرسمي» الذي احتضن زينة القصرينيّة، الفنّانة وأدخلها دواليب الانتاج وجعل منها عنصرًا يؤثّث به برنامجه المجتمعي، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ هذا «الوعي الرسمي» استطاع السيطرة على المقدرات الذهنيّة لقطاعات واسعة من العمق الشعبي، لكن سيطرة تمسّ الوعي الظاهر، أيّ التماهي الخَطابي دائما مع ما يرفض هذا الخطاب الرسمي من خلال ما ينشر من سيل التنديدات بأيّ ممارسة غير متوافقة مع مبادئه، دون إيمان عميق بما يقدّم هذا الخطاب، لأنّ ببساطة هذا الخطاب الرسمي، منذ سقوط دولة بورقيبة وبروز دولة بن علي، قام ولا يزال على المنع والتحريم والتجريم والتنديد بما هو «مشروع التديّن» دون تقديم سوى توصيف كلامي عابر وفضفاض عن «مشروع الحداثة» البديل…
ثانيا: الكتلة التي عادت إليها زينة القصرينيّة، وهي كتلة تؤسّس لذاتها من خلال عمق الإيمان الفطري، الذي عجز «إيمان الحداثة» عن زحزحته، بل يمكن الجزم أنّ الفرد كما المجموعة، أمام الخطاب الرسمي يظهرون تجاوب من هو تحت التخدير أي «فعل اللحظة» القادر على صناعة الإلهاء عن «الإيمان الفطري» لكن العاجز عن الحلول محلّه…
انقلاب زينة القصرية من أداة بين ايدي صنّاع المشروع الحداثي وتعبيرها بل تأكيدها أنّ السنين التي قضتها لم تورث سوى الندم والشعور بالذنب يأتي دليلا على أنّ الحرب بين المجتمعين أو النمطين حرب غير متكافئة: الأوّل يملك مشروع الدولة ويملك الإعلام ويتحكّم في أدوات تصنيع الخطاب الاعلامي وفي الآن ذاته، عاجز عن بناء نمط مجتمعي بعيدًا عن الخطابات الجوفاء ولعبة «الملك العاري». مقابل «الاسلام الاجتماعي» القادر على ممارسة تقيّة مارستها زينة القصرينيّة لعقود، لكنه عاجز عن التقدّم بالبديل، وليس له من سلاح سوى الصبر، وحتّى التقيّة (كما فعلت هذه الفنّانة) وانتظار افلاس ثان، بعد افلاس دولة الاستقلال جزئيا يوم 14 جانفي 2011.
ما تبدّل منذ 14 جانفي إلى الآن هو أنّ الحرب صارت مفتوحة بين «مشروع الحداثة» مقابل «الإسلام الاجتماعي» في تراجع الاسلام السياسي (أي النهضة) بل استقالتها ونفي ايّ دور لها في هذا المستوى، لذلك من الأكيد أنّ «إسلام سياسي» جديد بصدد التشكّل، يأتي عنيفًا في عنف التنديد الذي عقب مجرّد اعلان نيّة من فنّانة قررّت التوقف عن تعاطي الغناء…