يكفي النظر إلى الحوارات والنقاشات وحتّى الصراعات الدائرة بخصوص «هيئة الحقيقة والكرامة» وأساسها رئيسة هذه الهيئة سهام بن سدرين، لنكتشف أنّ المنطق المسيطر بل الجاثم الصدور كما العقول، هو «منطق الفوتبول»، أشبه ما هو كائن بين فريقين يتنازعان مباراة فاصلة للفوز بأرقى الكؤوس أو البطولات. اصطفاف بالكامل ودعم لا حدود له تقريبًا، لتكون مسألة الهيئة ومن ورائها أو (ربّما) من قبلها وجود سهام بن سدرين على رأس الهيئة، مسألة «حياة أو موت»، أيّ أنّ كلّ طرف لن يتراجع قيد أنملة، خاصّة وسط «الغمامة القانونيّة» أو (على الأقل) عدم تسليم الجميع بذات القانون وفق ذات القراءة.
استطاعت سهام بن سدرين، منذ أن أعلنت عن ملكيتها وثائق تطعن في صورة الاستقلال (النقيّة وفق قراءة خصومها) أن تتحوّل إلى «الرجل الواجب قتله»، ممّا يدلّ أنّ مسألة وجود/بقاء أو استقالة/إقالة هذه المرأة مرتبط وكان نتيجة «فتح فمها» بخصوص فرنسا، ولا علاقة له مباشرة بمسألة «الحقيقة» ولا بما يخصّ «الكرامة» من بعيد أو من قريب.
وسط المعسكرين الذين تشكّلا، جاءت النهضة أقرب إلى «عديم المكان» أو هو من يتحرّج من الصورة التي هو عليها. على خلاف «سهام ومن معها» الذين يفخرون ويفاخرون، مقابل «أعدائها» الذين ليس فقط يفخرون ويفاخرون، بل يجهلون ويهدّدون على صيغة عمرو بن كلثوم، دون أن تركع الجبابرة لولدانهم صاغرين.
لفهم علاقة النهضة (الفكر والمنظومة والسياسة) بكامل المسار الذي تأسّس بعد 14 جانفي، يجب الإشارة إلىّ هذا التنظيم (الذي كان اسلاميّا وأقلع عن الأمر) لا يرى الحاضر سوى في مرآة ماضيه بل لا يزال المستقبل أيّ قادم الأمر، وما يتطلبّ من قرارات نابع من «عقدة الماضي» سواء «سنين الجمع والعذابات» أو خاصّة ما تحسّ قيادات المهجر من ذنب حين تركت «شعب النهضة» فريسة لما كانت «ذئاب بن علي». هذه «الذئاب» التي تنام في منظار «هيئة الحقيقة والكرامة»، ليكون الافراج عنها، أيّ فضحها ونشر أسمائها والكشف عن جرائمها تذكير (في لاوعي النهضة) بدور القيادات التي غادرت «السفينة» أو هو «الجمل بما حمل»، خاصّة وأنّ قيادات من الصفّ الأوّل (وعلى رأسهم راشد الغنوشي) غادرت البلاد بعلم ودراية وأحيانًا تسهيلات من «بوليس بن علي» ولم تهرب أو غادرت البلاد خلسة، كما تقول بعض «أساطير النهضة»…
لذلك نقف أمام مشهد متشابك وبالأساس معقدّ:
أوّلا: الدولة العقيمة ومن ورائها «التجمعّ» ومشتقاته، في الآن ذاته، يريدون استرداد الماضي وفسخ القوس الذي فتحته الثورة، ويرون أنّهم حقّقوا (استراتيجيّا) من الانجازات وقطعوا على درب الاستعادة من الأشواط ما يسمح لهم بالحلم (الواقعي) ليس فقط بإغلاق القوس، بل بالقضاء نهائيا على أيّ «فكرة ثوريّة» مهما كان صنفها.
ثانيا: «تيّار ثوري» يأتي أقرب إلى «تسمية» نبحث عن «مسمّى» طالما لا تستيقظ هذه «النفوس النائمة» سوى زمن «الأزمات» ولا هم للوجوه البارزة (السواد الأعظم) سوى ترديد الشعارات، لتكون سهام بن سدرين، أشبه بين هذا «الحطام» بما هو «المسيح المنتظر»، حين ستملأ تونس «ثورة» بعد أن امتلأت «ثورة مضادة».
ثالثا: النهضة وما يمثّل هذا المشهد المتأزّم من «عقدة» لديها، حين عليها أن تثبت للصفّ الثوري (بما في ذلك الجزء غير الهيّن من قاعدتها) أنّها ليست «خائنة» لما هي «الثورة»، وأيضًا تثبت للصفّ التجمّعي أنّها غير «خائنة» (كذلك) لتعهدتها…
يختصر هذا المشهد بما يحمل (رمزيّا) من «أبطال ثلاث» المأساة/الملهاة التي جدّت في «مجلس نوّاب الشعب»، حين دافع أنصار «بن سدرين» عن إيمانهم وعبّر أعداؤها عن معتقدهم، في حين انقسمت النهضة في حركة دلّت على انفصامها، بين كلّ من «المتطرفّة» منية ابراهيم «الصابئة جهرا بالتوافق» وبين «المؤلف قلبها» يمينة الزعلامي التي طعنت «أختها» (منية ابراهيم) جهرا وعلانييّة، وأصرّت على ترداد «منطق الغنوشي» أنّ لا بديل عن «التوافق» سوى «التوافق». ممّا يدلّ أنّ النهضة وإن لم تبلغ حدّ الانشقاقات والشقوق، إلاّ أنّها ليست على «قلب الشيخ» ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ دخلتها «سوسة الخلافات» أو هي تعمّقت وترسّخت بما يجدّ من صراع حول بن سدرين وبسببها…. خلافات تمنعها أخلاق ماضي وجراحاته كذلك..
بمفهوم «مايكيافلي» ونظرة الواقعيّة للسياسية، نحن أمام حلّين لا ثالث لهما:
أوّلا: إدماج سهام بن سدرين ضمن «توافق» ينفتح من «ثنائيّة الشيخين» إلى «ثلاثيّة» جديدة، تتحدّد على أساسها قواعد لعب جديدة مع حدود مبتكرة، ومصالح مستجدّة،
ثانيا: استبعاد سهام بن سدرين، وفي الآن ذاته المحافظة على «التوافق» شكلا ومضمونًا ووظيفة خصوصًا…
إنّ كان الحلّ الثاني أقرب إلى الواقع إلاّ أنّه يفتح الواقع المتوتّر أصلا على مخرجات يصعب قراءة نتائجها، سواء اتّخذ اسقاط بن سدرين «شكلا قانونيّا»، مهما كانت «شرعيّة المرجع»، أو كانت «شرعيّة المداهمة والبوليس» (مثلما عهدنا زمن بن علي)، ممّا يعود بالبلاد إلى زمن «بن علي» حين يتمّ طرز القوانين بحساب الحاجة، وكذلك يفتح البلاد على مجهول لا يمكن لأحد ضمان حدوده أو أمده أو حتّى تأثيراه في أدناها.
من الأكيد وجود يدّ فرنسيّة في المسعى إلى إسقاط سهام بن سدرين لجرأتها فتح باب محظور والمجاهرة بما كان يُتلى سرّا، وكذلك من الأكيد أنّ معاداتها تفتح الباب على مصراعيه أمام من يظنّون ويحسبون ويعتبرون وربّما هو اليقين لديهم أنّ فرنسا (كما قال السادات عن أمريكا) تملك 99 في المائة من أوراق السياسة في تونس، لتكون «حرب الاسترداد» لدى التجمع فرصة للعود إلى «جنّة ما قبل 17 ديسمبر». كما سيكون هذا «الاسترداد» محنة للنهضة ترى نفسها (خاصّة بعد زيارة ماكرون وما صحبه من غزل مفضوح) أنّها في ليس في غنى عنها فقط، بل قادرة أن تفضح ما يشكّ فيه خصومها ونطقت به منية ابراهيم في لحظة غضب، عرّت به ما سعى الغنوشي لنفيه منذ أن كان في لندن…..
لا يعجبنّك في الدهر سوى طوله
[تعريب لجملة شهيرة من أغنية تونسيّة تتّسم بالحزن وتنمّ عن معاناة]