فجأة، وعلى حين غرّة، غاب أبـــــو محـــــمّد الجـــــولانـــــي بزيّه العـــــسكريّ وعمامة، مع لحيته كثيفة نسبيّا، ليجلس بدلا عنه على كرسي الحكم في دمـــــشق أحمـــــد الشـــــرع، بزيّ مدني أنيق مع تقصير في اللحية.
تغيير في الشكل هدفه استبدال «الجهـــــادي/الثـــــائر» بما هو «السياسي/الرصين»، مع الإصرار على وجوب الانتقال من منطق الثـــــورة إلى جدليّة الدولة. جارته وسائل الإعلام التي تسير في ركابه، دون طرح أيّ سؤال تقريبًا عن مدى نجاح هذا «الاستبدال»، خاصّة وأنّ جميع الوفود السياسيّة، خاصّة الغربيّة منها، جلست تستمع وتستفسر أحـــــمد الشـــــرع، دون أدنى وعد برفع الجـــــولاني من قائمة الإٍرهاب، حيت لا تزال (وفق القانون الأمـــــريكي)، جائزة المليوني دولار سارية لمن يقدّم معلومات تمكّن من القبض على هذا «الإرهـــــابي» شديد الخطورة أو تحييده (بمعنى القتل). كما كان الحال مع العشرات من أمثاله…
يعمل أحـــــمد الشـــــرع في صورة «الوريث الشرعي» ولا أحد سواه لما جمعت الثورة (بقيادة الجولانــــــي) من «رصيد» جعله يجلس على «عرش» دمشق، دون أن ينازعه أحد أو حتّى يناقشه.
مهما سطعت أنوار الثورة ومهما كانت الهالة التي تحيط بها، لا يمكن لهذا الرصيد أن يمثّل رأسمال لا ينضب، خاصّة أمام شعب عانى الويلات على مدى سنوات طويلة ولم يعد يملك القدرة على التحمّل أكثر. حين يمكن الجزم أنّ الاستقرار الداخلي، بمعنى وجود النظام الجديد لم يعد مهدّدا من قبل النظام السابق، بل بالقدرة على إثبات الوجود، بتوفير الأمن وتأمين حياة كريمة للجميع.
منذ اللحظات الأولى لمغادرة شرنقة الثـــــورة والسعي للاكتمال في صورة الدولة، تعلم القيادات الجديدة وتدري يقينًا، أن «الرصيد الثــــــوري» صار أشبه بقالب ثلج تحت شمس حارقة. هو ذائب مهما كبر حجمه. لذلك وجب الإسراع في صناعة الصورة (الجديدة) في صراع قاتل مع الزمن…
الجـــــولاني الذي لم يعتد بعد بالكامل على ثوب أحمد الشرع الذي يرتديه، يعلم علم اليقين أنّه يقف في مركز عدد غير محدود من الدوائر، مختلفة الشعاع، أقربها من بايعوه على المنشط والمكره، وأبعدها من كانوا يرون فيه مجرّد وسيلة للتخلّص من بشّار ونظامه، في انتظار التخلّص منه ومن ثـــــورته.
هذا الخوف أكيد وأكثر من ذلك شديد، حين يبيّن أنّ فتح دمـــــشق وإســـــقاط النظام، لا يمثّل نهاية المطاف، بل تأكّد أن المنطقة لن تعرف الاستقرار في القريب العاجل. أنظمة عديدة ترى في «حاكم» سورية الجديد عدوّا لدودًا، لا يختلف قيد أنملة عن بشّار الأسد، إن لم يكمن أشدّ خطورة…
دولة مثل السعوديّة أو الإمارات، تعتبر كلّ منهما أنّ الأنظمة التي جاءت إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، عدوّا تاريخيّا لها، كما تصنفان تنظيم «الاخـــــوان المســـــلمين» ضمن خانة الأعداء كذلك. الفارق بينهما بسيط، يتمثل في اعتبار الإمارات الإخوان على رأس العداوة، في حين ترى السعوديّة أن الأنظمة الناتجة عن الانقلابات أشدّ خطورة…
لذلك لم تتورّع الدولتان عن تشكيل «معارضات مســـــلّحة» موالية لها في ســــــــــورية، وبعضها، خاصّة المموّل من الســـــعوديّة خاض معارك جدّ ضارية ضدّ قوات النظام السابق…
هذه المخاوف عبّر عنها الصحفي المصري أسامة جاويش، الذي يمكن الجزم أنّه من أعلى الأصوات دفاعا عن «الثورة السوريّة»، من منطلق «اخواني» معلن وصريح، حين أعلن على حسابه على يوتوب، الذي يملك قرابة 430 ألف مشترك، أنّ اللقاء الذي تمّ في مدينة العقبة في الأردن، بين عدد كبير من الدول مثّل، «الطعنة الأولى»، حين تمّ تغييبها، وأكثر من ذلك، التقرير بدلا عنها، وما هو أكثر خطورة، مصادرة حقّها في التعبير والحديث مكانها…
من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ هذا الصحفي لا يتحدّث باسمه الشخصي ولا نيابة عن 430 ألف مشترك في حسابه على تويتر، [انقر هنا لمشاهدة الفيديو] بل يعبّر عن مخاوف «أنصار الثورة»، ممّا جرى في العقبة من وصاية أولاّ، وأكثر من ذلك ما تخططه كلّ من مصر والإمارات، اللتين ذكروهما بالإسم، سعيا (دائمًا وفق الصحفي أسامة جاويش) وراء وأد الثـــورة…
رغم تداركه واستثناء كلّ من تركية وقطر من «المؤامرة» التي تمّ تدبيرها في مدينة العقبة، نسي هذا الصحفي أو لم يخطر بباله (ربّما) طرح السؤال عن سبب مصادقة الدولتين الراعيتين الرسميتين لما كانت الثـــورة ومن بعدها ما هي الدولة في ســـورية، على البيان الختامي لاجتماع العقبة الذي مثّل لدى الصحفي أسامة جاويش «الدليل» على «المؤامرة».
الخطر يتهدّد مشروع «ما بعد بشّار» بكامله، حين رسم أنصار داخل سورية ومن وراء ذلك الطيف الإخـــواني/السلـــفي، بأحلامهم الورديّة أفقًا أوسع بكثير جدّا، ممّا يرى رجل السياسة أحـــمد الشـــرع، أنّ بالإمكان تحقيقه… أخطر من ذلكـ، تأتي هذه الأحلام أعلى بكثير جدّا من السقف الذي يقف تحته رعاة الثورة ومن موّلها بالمال والسلاح والرجال.
العلاقة بالقضيّة الفلســـطينــــيّة ستشكّل المحك الذي سيحسم مسألة علاقة «الثــــورة» التي صارت «دولة»، بعمق شعبي، يرى/يحلم مرأى العين أبــــو محـــمّد الجــــولاني فاتحًا بيت المـــقـــدس ومصليا في المســــجد الأقـــصى كما فتح دمــــشق وصلّى في المـــــسجد الأمـــــوي…
«منطق الدولة» يستوجب من أحــــــمد الشـــرع، لزامًا ودون أدنى نقاش، عدم الطيران أعلى من السقف القطري/التركي. لكنّ «الحلم الشعبي» الذي يريد أو يستوجب من أحمــــد الشــــرع الاحتفاظ داخله من الجـــــولاني بحلم «الجــــهاد» إلى أن يتمّ تحـــــرير فلســـطين، حين رفع «طوفـــان الأقـــــصى» السقف عاليا جدّا، وصارت الشعوب ترى الصهيوني عاجزًا عن كسر المقاومة في كلّ من غــــــزّة ولبـــنان…
فتح دمشــــق وإسقاط نظام بشّـــار لا يعفي ولن يُعفي من التفكير في تحـــرير فلســــطين. كلّ ما في الأمر (ربّما) تأجيل إلى حين، ليكون السؤال عن موقف أحــــــمد الشــــرع، الذي أعلنها صراحة بأنّ استهداف أيّ دولة مجاورة انطلاقًا من ســــوريـــــة ممنوعًا منعا باتًا، بما في ذلك الكيان…
من الطبيعي أن يتوعّد «رجل الدولة» أيّ عمل عســــــكري موجه نحو جيـــش الكيــــان، سواء فوق الجغرافية الســـــوريّة أو انطلاقًا منها. مع العلم أنّ المخيال الإخـــواني/السلـــفي يرى في الجـــولانــــي رأس الحربة في هذه المـــقاومــــة، بل هو من سيحرّر بين المـــقدس وسيــــصلّي بأتباعه في المــــجسد الأقــــصى…
حينها سيكون أحمــــد الشــــرع مجبرًا على إعدام الجــــــــولاني بتهمة التعدّي على «دولة جارة/صديقة» أو يقتله حرّاس الحدود، لأنّه تجرّا على دخول منطقة عســـــكريّة مغلقة…