سعادة سفير الجمهورية الفرنــــسية في الـــجزائر لا يعي ولم يفهم أنّ ما يفصل الجزائر عن فرنســـا، إضافة إلى البحر الأبيض المتوسط، محيطات من الدمـــاء، لا يمكن، بل يستحيل تجفيفها ما دامت فــــرنسا، الدولـــة والفكر الماسك لمقاليد السلطة، ترى وتعتقد أن مثل هذه الحركات، أي وضع إكليل من الزهور والوقوف أمام قبر الـــعربي بن مـــهيدي، قادر على أنّ يمثّل اللبنة التي تساعد في طيّ صفحة الماضي وتجاوزه…ليس في الأمر «تــــــطرّف» أو «مزايدة» أو كما قالت بعض الجهات الإعلاميّة الفرنــــــسيّة أنّها «متـــاجرة بدماء الشـــهـــداء»، بل هو اليقين بمعنى الإيمان في بعده الديني أنّ المأخذ الأساسي لا يكمن، فقط وحصرًا، في ما اقترفت فرنسا من جــرائـــم طوال 132 سنة، بل (وهنا الأهميّة) ما كانت عليه هذه الدولة الاستــعمارية طوال فترة وجودها في الجزائر، ولا تزال إلى بوم الناس هذا…
بمعنى أنّ العنـــصريّة كما الإذلال والظــلم بأصنافه، لم تكن على مدى ما يزيد عن قرن وثلث قرن، مجرّد «سوء تقدير شخصي» أو «أخطاء فرديّة»، بل في صلب سياسة الدولة الـــفرنسيّة، وأسباب وجودها في الجزائر…
لم يفهم بعد سعادة السفير أنّ ما يدمي قلوب الجزائريين راهنا ليس فقط الفعل المادي، بدءا بالاحـــتقار والإذلال، مرورا بالتـــعذيب والاذلال، نهاية بالتصـــفية والقتل طوال 132 سنة، بل ما كانت عليه فرنسا من وعي استـــعماري وعقيدة بالمفهوم الأيديولوجـــي تدفع وتشجع على استـــعباد الشعوب الأخرى دون خجل أو حياء.
ما الذي تغيّر في الفكر السياسي الماسك لدواليب السلطة في فرنسا؟
لا يتطلب الأمر ضرب الرمي أو اللجوء إلى الأقداح، أو بالمفهوم الفرنسي النظر في الكرة البلوريّة، بل التأكيد على أمرين:
أوّلا: أن المجـــازر التي ارتكبتها فرنسا، جاءت بالجملة ويستحيل الاعتذار عنها بالمفرق، لأنّ القبول من قبل الجزائر أو أيّ جزائري بهذا الأمر، سيدخلنا (الجزائر وفرنسا) في لعبة «بازار» لا أوّل له ولا أخر، حين يرى هذا أنّ الأمر يستدعي التكرار، أي وضع إكليل من الزهور كما الانحناء أمام قبر هذا أو ذاك من الشهداء ليتلخص الأمر في عدد هؤلاء، (الذي سيكون الاختلاف بشأنه أمرُا محسومًا).
ثانيا: حين البعرة تدلّ على البعير والأثر على المسير، ودون مصادرة نوايا سعادة السفيـــر، لا في بعده الشخصي أو الدبلوماسي، أيّ ممثّل دولة فرنســــــا، يكون من الطبيعي، إن لم نقل الضروري، طرح السؤال التالي: «هل شفيت فرنـــسا من فيروس العظمة وداء العــنصريّة ووهم التفوّق العرقـــي؟».
الإجابة تتجاوز شخص سعادته، لتخصّ الذات الفـــرنـــسيّة في بعدها الجامع وبالأخصّ الراهن، ليكون الـــعدوان الصـــهيونـــي المدعوم بالكامل من قبل الغرب (الرسمي) بما في ذلك فرنســـا خير محرار لقراءة مؤشرات تؤكد أو تنفي هذا النفس الاستعماري البغيض؟
مجرّد قراءة موضوعيّة لشــــلال الــــدم الذي لا ينقطع بدءا في غــــــــزّة ومن بعد ذلك في لـــــبنان، كاف لنتبيّن انحياز فرنسا (كما أوروبا وأمريكا) الكامل. مع التذكير أنّ فرنسا (الدولة كما الإعلام) ليس فقط زكّت الرواية الصـــهـــيونيّة سواء تعلّق الأمر بما زعموا أنّه «الاغتصاب بالجملة» وكذلك «قطع رؤوس الرضع دون حساب»، علمًا وأنّ صحيفة «هـــآرتز» كذّبت وفنّدت هذه المزاعم، بل قدّم الرئيس الفرنسي أثناء زيارته للكيـــان كلّ الدعم والمواساة كما اقترح على الملأ تكوين تحالف عالمي لمجابهة حـــمـــاس… عدّلت فرنسا بعد ذلك من موقفها لأنّ الـــولايــات المتـــحدة احتكرت القرار ولم يكن أمام بـــاريس سوى اللعب في المجال المفتوح أيّ التمنيات والنوايا.
لسائل أن يسأل سعادة الســـفير، هل كانت فرنســـا ستتخذ الموقف ذاته، في حال كانت الصورة على عكس ما هي راهنًا، أيّ بمعنى «طيران فلســـطينـــي (أو عربي/إسلامي)» يتفنّن في قـــصف مـــخيمـــات يسكنها يـــهـــود. مع ما نرى من أشــــــلاء؟
من باب إيفاء كلّ ذي حقّ حقّه، وجب التذكير (للتاريخ) أنّ فرنسا أبلت البلاء الحسن سعيا لإطلاق الـــجنـــدي الصهـــيونـــي جلـــعـــاد شـــالـــيـــط، عندما أسرته حـــركـــة حـــــمـــاس، بسبب حيازته للجنســــية الفرنســــــيّة كذلك. علما وأنّ أسره تمّ فوق أرض مـــحتلّة (أيّ غــــــزّة) وبالتالي وفق القانـــون الفرنســـي يستوجب المحاكمة.
لا يدري سعادة السفير أنّ مصيبة الجـــزائر ليس في ما فعله من مخاتلة، بل وهنا المصيبة، في لفيف «الحركَى» كما «الصبايحية» المحسوبين على الجزائر الذين يرون في انتقال سعادته إلى مقبرة العالية، ووضع أكليل من الزهور على قبر سيّد شهداء الجزائر هي «معجزة». بل هم على إيمان ويقين أنّ بمجرّد أن وطأ حذاء سعادته أرض المقبرة، جاء أشبه بحذاء رائد الفضاء الأمريكي، الذي كان أوّل من وطأ القمر…
مربط الفرس:
فـــرنسا بصدد فقدان مربّعات نفوذها في افريقيا، تريد أن تستعيض عن ذلك بما تعتبرها «درّة التاج»، أي الجزائر…