منذ بداية الحديث عمّا يسمّى «صفقة القرن»، طفق العمق العربي عامّة والفلسطيني خاصّة، يتحدّث عن «الخطر القادم/الداهم» بمعنى أنّ هذه الصفقة تهديد «جديد»، والحال رجوعًا إلى الندوة الصحفيّة التي عقدها كلّ من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ورئيس حكومة الكيان الصهيوني، أنّ الأمر لا يعدو أن يكون «مجرّد» تكييف «قانوني» لما هو بين أيدي الصهاينة، ممّا يعني أنّهم (أيّ الصهاينة) لن يسيطروا على «أراض جديدة». فقط هم يحوّلون صيغة أراض يسيطرون عليها سيطرة «احتلال» تقع تحت حكم «السلطة العسكريّة» إلى أراض تتبع «الدولة» (أيّ الكيان)…
الغضب العربي خطير وشديد الأهميّة، حيث أنّ التسليم/القبول كان قائمًا بوضع «الاحتلال العسكري» سوى أطراف قليلة وضعت المعادلة مع الصهاينة ضمن درجة النفي المتبادل، ليكون الغضب وتقوم القيامة من «إعادة التكييف القانوني» أكثر منه الاحتلال العسكري الذي يدوم منذ نكسة 1967.
وجب التذكير أنّ «التطبيع» الذي يمارسه الكيان الصهيوني بخصوص الأراضي المحتلّة سنة 1967، بتحويل توصيفها من «أراض محتلّة» إلى «جزء من الكيان» ما كان ليكون سوى من باب إثبات الذات وإغلاق الباب أمام أيّ «مفاوضات» مقبلة، لتعود لعبة شبيهة بمسرحيّة «أوسلو» بخصوص بقيّة ما تبقّى من أراض خصّصتها صفقة القرن للطرف الفلسطيني، التي وجب على هذا الطرف أن يثبت جدارته لنيلها، من خلال سلسة جدّ طويلة من «الامتحانات» أوّلها «البصم على الصفقة» ومن ثمّة التسليم بالحقوق الصهيونية على أرض هذه «الدولة اليهوديّة»، تسليمًا مطلقا وغير قابل للنقاش، وأخرها النجاح في نزع سلاح المقاومة في غزّة. بمعنى لن ينال فلسطيني «أيّ حقّ» من هذه «الصفقة» سوى في حال النجاح (بجدارة) في جميع درجات الإمتحان. أيّ أنّ في حال أبلى الطرف الفلسطيني (في حال وجود هذا الطرف) البلاء الحسن على مستوى جميع درجات الامتحان، وعجز عن تأمين الدرجة الأخيرة، يكون الرسوب تامّا والعود إلى نقطة الانطلاق، وربّما الانطلاق من جديد في جولة ثالثة، من الامتحانات، بعد أوسلو وصفقة القرن.
لسائل أن يسأل : حين نعلم افتراضًا أن الآلة الصهيونية في أبعادها الأيديولوجيّة والفكريّة والسياسيّة وحتّى العسكريّة، هي «آلة عقلانيّة» ضمن منطق العقل الغربي، وأنّ لا وازع «أخلاقي» أمامها في استثناء لما تستوجبه لزوميات «الاخراج المسرحي» والتماهي (الآني/الظرفي) مع ما يسمّى الشرعيّة الدوليّة، يكون السؤال عن الحاجة (وفق هذا العقل الماكيافلي) لهذا الإصرار على انتزاع اعتراف من «الضحيّة» بشرعيّة عملية «السرقة» وما يشبه عمليّة «تبييض المسروق» والخروج به من مرتبة «الأرض المحتلّة» إلى «جزء من الدولة»؟؟؟؟
يدري العقل الصهيوني وقد اعترفت بذلك مرجعيات أمنية في الكيان، أنّ الإعلان عن «صفقة القرن» (مجرّد الإعلان) يفتح باب بلاء على هذا الكيان، لنطرح سؤال ثان : ما هي «المكاسب» التي جناها وخاصّة التي يمكن أن يجنيها الكيان، حتّى يغامر من أجلها ويقبل بجميع المخاطر التي تنتج عن هذا «الإعلان»؟؟؟؟
منذ إعلان الكيان سنة 1948 والكيان يعيش معضلة خطيرة، بل شديدة الخطيرة : كمّ السلاح المكدّس في المخازن والقدرة العسكريّة المتعاظمة وأساسًا ما يرى هذا الكيان/الجيش أو يدّعيه من تفوّق استراتجي على جميع «الأعداء» مجتمعين، عجز عجزًا تامّا عن تأمين الإحسان بالأمن والاستقرار، لذلك جاءت الرغبة في تأمين التفوّق على مستوى الأسلحة النوعيّة، أكثر منها رغبة في الحصول على الطمأنينة من اليقين الفعلي والفاعل على تأمين التفوّق ومن ثمّة الطمأنينة.
منذ نكسة 1967 إلى يوم الناس هذا، عجز الكيان عن تحقيق نصر يمكن تثمينه ضمن أبعاده الاستراتيجيّة وحتّى السيكولوجيّة، بما في ذلك اجتياح لبنان سنة 1982، الذي بدا عند السيطرة على بيروت وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، نصرًا كاسحًا، إلاّ أنّه بدا بعد أشهر قليلة خطأ استراتجيا بل وجوديّا، حين تراجع الوجود العسكري تدريجيّا، ليكون الفارق بين لحظة اجتياز «الحدود» سنة 1982، مقابل لحظة اغلاق «بوّابة فاطمة» سنة 2000، ليس فقط شديد السلبية، بل هو يمثّل شروخًا في الجسد الصهيوني، تيقّن قادته (وفق ما جاء في تقرير لجنة كاهانا) أنّه زلزال مسّ الجذور المؤسّسة التي يقوم عليها هذا المشروع.
إعلان «صفقة القرن» لا يعدو أن يكون مجرّد «محاولة سيكولوجية» لإدخال الطمأنينة على هذا «اللصّ» بأنّ «الضحيّة» قادر ليس فقط على التنازل عن «المسروق» بل (وهنا الأهميّة) أنّ هذا المسروق (بكامله منذ 1948) لم يعد ولا يمكن أن يكون محلّ «مساءلة» أو «نزاع» من أيّ صفة كانت، سواء الأرض في ذاتها، أو (وهنا الأخطر) الحقّ بما يسمّى «يهوديّة الدولة» أيّ عيش اليهود بمفردهم في «طمأنينة» لا يعكّر صفوها «الأغيار»…
هي أزمة داخل «الذات الصهيونيّة» التي في الآن ذاته، في حاجة للتأكيد أنّها الأقوى، وفي الآن ذاته افهام «العدوّ» أو بالأحرى انتزاع اعتراف منه بما «شرعيّة السرقة»، لكن داخل هذه الذات الصهيونية ينعدم الاطمئنان، ليقين داخل هذه الذات بأنّ السلاح أعجز من أن يمكّن من هذا الطمأنينة، ودليل ذلك أنّ الجدار الذي بناه الصهاينة حول كيانهم، وكلّف خزينة كيانهم ملايير الدولارات لا فائدة عسكريّة سواء استراتيجية أو حتّى تكتيكيّة، حين هو (أي الجدار) عاجز عن صدّ الصواريخ (التهديد الاستراتيجي) وكذلك عاجز عن صدّ لا المشاة ولا سلاح المدرعات، حين يعجز هذا الجدار عن الوقوف أمام قذيفة أر بي جي من الصنف التقليدي.
الجدار الصهيوني جاء سيكولوجيا، في شكل التنازل الطوعي عن المشروع الصهيوني، أيّ التوسّع من المركز نحو الدوائر الأوسع أو بالأحرى الدائرة الأبعد، ليكون الانكفاء من الدائرة نحو المركز، المحاط (رمزًا) بجدار، أي «الغيتو» (أيّ الدائرة بالايطاليّة)… أيّ التخلّص من عقل «الصهيوني» المكابر لفائدة «اليهودي» المنكفئ.
صفقة القرن هي سعي لإعادة التأكيد على امكانيّة المزاوجة بين «صهيونيّة الكيان» و«يهوديّة الشعب»، من خلال إيهام الذات بأنّ التوسّع ممكن، بشهادة ترمب وخاصّة ضمانته، مقابل طرف مقابل، كان في جانب كبير منه «مطبّع» (في الواقع) مع هذه «السيطرة العسكريّة»، ليستفيق أمام «صفقة القرن»، أيّ مرور الوهم الصهيوني من «الإغتصاب» العسكري إلى «تبييض» الكيان.
عندما انسحب أريال شارون من غزّة، صاح حينها «بيني بيغين» نجل السفّاح ميناحيم بيغين، مخاطبًا «ملك اسرائيل» : اليوم تنازلت عن غزّة، غدا نتنازل عن تلّ أبيب….