هناك في تونس ما يمكن أن نطلق عليه بالمفهوم السوفيتي، «نومنكلاتورا» nomenklatura، أيّ «الصفوة التي تمسك مقاليد البلاد، وبيدها الحلّ والربط»، مع فارق بسيط أنّها لم ولن تصل إلى الحكم في تونس، لكنّها تحسب ليس فقط أنّ البلاد والعباد، ملكا لها، بل لا يتنفّس أحد دون إذنها ولا تشرق الشمس إلاّ بموافقتها.
عمّق الانترنت عقدة هذه «النخبة» وزادت مواقع التواصل الاجتماعي الطينة بلّة، حين صارت (هذه النخبة) ليس فقط تتحّدث بل تتصرّف أو هي تبشّر بصورة شعب (بكامله دون استثناء مهما كان) ليس فقط لا يرفض أمرًا، بل هو الطاعة ذاتها، بمعنى أنّ «بروفيل» على الفايسبوك سيرمي «الأعداء» (بمختلف صروفهم) بين غياهب السجون والمنافي.
مصيبة هذه النخبة أنّها لم تقرأ التاريخ ولم تتعظ من الماضي. لم تفهم من نتائج الانتخابات التشريعيّة الفارطة، أنّ مجرّد دخول نبيل القروي معترك السياسة ببرنامج أساسه ما كانت تنظّر هذه «النخب اليساريّة»، أيّ «رأسمالها الاعتباري» [العدالة الاجتماعيّة والانتصار لطبقة البروليتاريا]، وتحقيق هذا الذي يرتدي «بلوطة» [قرطًا] تلك نتيجة، وصمة عار لن يمحيها الدهر. أفضع من ذلك أنّ اليسار (حين نعتبره افتراضًا كتلة واحدة) عجز، منذ أن عرف لذاته موقعًا على الخارطة، عن تحقيق رُبع ثُلث ما حققه «ولد بوه الحنين». ممّا يعني وفق الجدليّة التاريخيّة (في مختلف قراءاتها) وجوب الوقوف وقفة تأمّل نقديّة، وليس الاستمرار في الشطح على الفايسبوك كأنّ الواحد فيهم «عنترة بن شدّاد» أو «عمرو بن كلثوم».
هذه النخب اليساريّة التي استطاع «صاحب البلوطة» أن يسرق منها «خطاب العدالة الاجتماعيّة»، هي بصدد ارتكاب «الحماقة» ذاتها تجاه فتحي العيوني الذي أسّس صندوقًا للزكاة، وهي تحمل يقينا أنّ «الشعب» لن يفكّر خارج ما تفكّر هذه النخب ولن يفكّر في الذهاب أو التصّرف خارج الأوامر بل التعليمات التي يصدرها من هبّ ودبّ من هذه الجماعة.
اللغة العربية جعلت للفظ «الفعل» معنى مزدوجا. الفعل بمعنى verbe وكذلك الفعل بمعنى action، وبالتالي هناك خلط بين معنى الخطاب الرنّان ومعنى التحرّك المجدي والفعّال، حين تظنّ أنّ الكلام سينقلب أثرًا بالضرورة.. يكفي أن يكون القول ليكون التنفيذ.
تتحدّث هذه النخب عن «مشروع الزكاة» في استبدال مرضي، لما هو «كائن وسيكون» بما «يجب أن يكون وما يجب أن يحدث» في تناس أنّ الجماهير التي قصدت ولائم نبيل القروي ونالت عطاياه لم تتطلع لا على جدليّة ماركس ولا على تنظيرات باكونين عن «الأناركيّة» دون حدود، ولم تسمع ولن تسمع ولا تريد أن تسمع تنظيرات «الرفيق» أنور خوجا عن إبادة الإقطاع، ولا حديث «ربّان السفينة» ماو تسي دونغ، عن محاصرة المدن بالأرياف، أي ما تحلم به هذه الجماهير وما بداخلها من رواسب «الريف» الناقم على حضارة المدينة.
فقط وحصرًا، صنعت قنوات التلفزيون من هؤلاء المعدمين مشروع «شحاذين» يفاخرون بفقرهم على الشاشات، بل يعتبرونه رأسمال لا ينضب عندما لا تحنّ القلوب الرحيمة إلاّ أمام عدسات التصوير.
دون الدخول في نوايا فتحي العيوني أو مقاصده أو مرامه، أو المضمر في نفسه، سيكون على «صندوق الزكاة» أن يتعامل مع هذه الفئة التي لقنتها القنوات التلفزيون أنّ «الشحاذة فنّ ومفخرة» وبالتالي كما فعلت مع نبيل القروي وجعلت منه «زعيم المرحلة»، ستحاول مع فتحي العيوني ومن معه.
فهم نبيل القروي الذي بالقطع وأيمان السماء والأرض مجتمعة، لم يطالع لا ماركس ولا أنجلز، ولا العفيف الأخضر ولا الطاهر الحدّاد، بل ربّما لم يسمع بهذه الأسماء سوى لمامًا، أنّ جهاز التلفزيون قادر من خلال سحر الصورة أن يقلب حياء الفقراء وتعفّفهم إلى مباريات يتسابقون من خلالها لتقديم «أفضل فقير» في تونس، حين تمّ اقناعهم بل وترسيخ الأمر في أذهانهم، أنّ «سحر الصورة» سيقلب الحياء والحشمة فخرا بل وبطولة يحملها الركبان وترحل بها السيّارة، ويذكر الذريّة ذلك، مثل ما يفاخر ذريّة الطائي بكرم جدّهم حاتم.
هناك فارق كبير وخطير، بل هي العلامة الفارقة، بين كلّ من نبيل القروي وفتحي العيوني، ليس فقط على مستوى البلوطة مقابل طابع الصلاة، بل ما هو أخطر بكثير :
نبيل القروي بالتعبير الدارج «مقطوع من شجرة سياسيا»، كل تاريخه كان ولا يزال دون خلفيّة تنظيميّة، بسط قناته في خدمة أكرم السياسيين وأسخاهم، ليركبه «شيطان السياسة» ويعتمد قناته ركابا وسلمًا للصعود. كان ولا يزال أشبه بالبهلوان الذي يبحث عن استقرار «ديناميكي» [غير ثابت] لأنّ الهيكل قائم دون أسس أصلا.
على خلاف فتحي العيوني، الذي تضرب جذوره تنظيميا (في أيسر القراءات) إلى السيّد قطب ومن قبله حسن البنّا، وفكريا إلى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ومن ثمّة، اعتمادًا على العمق التنظيمي العمودي (المتجاوز لحركة «النهضة») والجذور التاريخيّة والامتداد الأفق، لن يكون فتحي العيوني ومن معه في سذاجة وخاصّة ميوعة ذلك «المقطوع من شجرة» الذي يأتي أشبه بمن ربح أرفع يانصيب في العالم، وذهب مباشرة ليلعب القمار في ذات اليوم ويخسر المبلغ دفعه، وها هو أشبه بالصيّاد المنكود الحظّ، يبكي حلما انقلب كابوسًا.
وفق أخلاق السوق السياسيّة وما فيها من هبوط حاد، لا شيء يمنع (سي) فتحي واخوته من تثمين الطاقة الخيريّة فعلا انتخابيا. فعلها نبيل القروي قبله ولم يحاسبه أحد.
نبوءة لا تحتمل التكذيب.
كما عجز يسار الكافيار والسيجار عن فهم عملية السطو التي قام «ولد بوه الحنين» على ميراث «العدالة الاجتماعيّة» التي يبدعون خطابة فيها، لن يفهموا (لن الزمخشريّة) أنّ مسألة «صندوق الزكاة» أكبر وأعظم وأشدّ ثقلا من بكائيات وتنديدات الفايسبوك لأنّ الجماهير المعدمة ترفض الموت جوعا إرضاء لنرجسيتهم المريضة.
مختصر الكلام :
كما لا يفلّ في الحديد إلاّ الحديد، لا يُقابَل صندوق الزكاة سوى بصندوق أكبر منه، وإلاّ استمناء مرضى وحمقى في وضح النهار.