على مستوى الخارطة، يمكن الجزم أن «جمنة» لا يمكن أن تتجاوز (في أفضل الحالات) «مجرّد نقطة» عابرة أمام الناظر، الذي يراها (إن شاهدها) ضمن سيل من المسميّات العابرة أمام ناظره.
على مستوى الإعلام الراكض وراء الأحداث المثيرة وما يشدّ الناظرين، هي مجرّد «تسمية» في أفضل الحالات، بين زحمة الأسماء والأيّام، حين يأتي الإسم عابرًا بين أحداث عابرة.
على مستوى الوعي العام، هي (أيّ جمنة)، رمز معركة وأرض صراع، بين معارك وصراعات، تجعل منها «عقدة» التاريخ (المعاصر) في تونس (ما بعد 14 جانفي)، في فصل بين من يسعى من جهة إلى طرح أسئلة موجعة وتساؤلات مؤلمة، في مقابل من يريد أنّ يسوّي الجغرافيا (الراهنة) ويجعلها جزءا من «تاريخ» العولمة.
جمنة، أشبه بالمعارك التاريخيّة الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ وبدلت مسار البشريّة، تلتحم عندها أو تتصارع إرادة من رفضوا النزوح إلى أحزمة الفقر وفائض الحرمان المتراكم عند مداخل المدن الكبرى، وفضلوا البقاء، بل هو التأصيل في أرض رمليّة لم تكن رحيمة بأهلها وإن كانت كريمة أمام من عانى شظف الفقر ومصاعب مناخ شاق…
هي مأساة/ملحمة أشبه بمآسي التاريخ الكبرى، حين تدور المعركة بين قرية ترفض الخضوع لمشيئة العولمة الطاغية والعابرة للحدود، والتي صارت بحكم «ديمقراطية المافيات» وكذلك «حريات اللصوص»، أشبه بسيف مسلول على رقاب من طالبوا بالمواطنة وأرادوها نخلا يزرعونه وتمرا يجنون عراجينه، وليس صراخ في مجالس النوّاب، المتخمين بقوانين لا يفقهونها، حين تأتيهم أوامر التصويت، فينصاع الجميع من باب «طاعة أولي الأمر» سواء من «أصحاب الكرامة» أو «ذوي البركات»….
تنتفي الخارطة وتتراجع الجغرافيا ويضمر التاريخ، أمام هذه «الحفنة» ممّا تبقّى من «رجولة» نبتت هنا (في جمنة)، لتصرخ بل لتقف أعلى النخيل معلنة أنّ سيف الرأسماليّة المتدثرة بثنايا «ثورة» (خائبة) لن تمرّ، وهي بالتأكيد لن تمرّ,,,
هي معركة من يملكون الشرعية أمام من يملكون «سيف القانون المشرّع» على رقاب الخلق ممّن رفضوا الإذعان وقاوموا الطغيان وجعلوا من كرامتهم وقودًا للحياة…
حكاية جمنة (لأنّ في الأمر حكاية) هي مأساة التناقض العابر للدولة القطريّة والكامن في دواخلها أشبه بسرطان أكلها وقنابل موقوتة تبحث عمّن يفجرها. أناس يشتغلون أرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم، في حين قرّرت «دولة المركز» أنّ الأرض لها، تهبها (أسوة بسلاطين الانحطاط)، لمن شاء «الحاكم» ومن أبلى البلاء الحسن في خدمة «الحاضرة»…
تهاوى السلاطين وهم يرحلون ويندثرون، لكن دون أن نودّع الانحطاط، بل صار الانحطاط أكبر وقد تدثر بما هي «الثورة» ولبس ما صار من «ديمقراطيّة»، وقد حمل قناع «الاستقرار» ليكون السيف ذاته في الحالات الثلاث، مع تغيير المقبض وجلب أياد أخرى، حين لا هويّة للجلاّد في بلد لا يخجل فيه الطغاة…
معركة جمنة ستكون أسوة بمعارك كثيرة في تاريخ البلاد، أسوة بثورات الجياع على مدى التاريخ ومدار الجغرافيا، من «ثورة علي بن غذاهم» إلى جميع الهزّات التي زلزلت تاريخ البلاد وهزّت جغرافيا المكان.
أهل جمنة زرعوا النخل وسقوه بعرقهم علّهم يذكرهم يوم المعركة، فيكون أرفق بهم وأحنّ من «سيوف الجلاّد» المتوقدة، بل المتوثبة لقطع الأعناق زمن قطع عراجين النخل وإسالة الدماء وقد أسال أهالي جمنة ما طاب لهم من شراب «اللاقمي» الذي قال عنه القدماء، بل أقسموا أنّه من «شراب الجنةّ» أو هي (في رواية أخرى) «جنان الله على أرضه»…
هي «معركة» فيها الكرامة أساس الرهان والمفاهيم قاعدة الحراك، لأنّ من سكنوا أرضهم وأعادوا الحياة في ما مات فيها، تهون أمامهم الروح، وقد زرعوا الروح مكان النخل أو هو معيته منذ أزل التاريخ…
الرهان (لأن في المسألة رهان) لا يمكن أن يكون (أصلا) بين سكّان أعادوا الحياة إلى الأرض من جهة، مقابل «دولة الدمقراطيّة» التي تقول وتردّد، بل لا تملّ القول أنّها «دولة الجميع» بل هي «دولة الكرامة للجميع»…
الرهان الحقّ، في مواجهة رهانات ردّدها من خرجوا إلى الشارع وشرّعوا صدورهم للرصاص يوم 17 ديسمبر، أن تضمّ «الدولة» هؤلاء الذين أعادوا للأرض الحياة، وتعتبرهم أسوة لها، بأن تحيي هي ما مات أو يكاد في قلوب الناس من ثورة مغدورة، وديمقراطية مغشوشة واستقرار هشّ…
على الدولة أن تحوّل جمنة إلى مزار يقصدها الشباب العاطل الذي يؤثّث المقاهي أسوة بالكراسي والكؤوس، ليجد هؤلاء الشباب أو بالأحرى يعاودوا اللقاء بالشعلة التي اندلعت يوم 17 ديسمبر وعمل العدوّ المعلن والصديق الكاذب على إطفائها…
لم تعد المعركة ولم تكن أصلا، بين دولة (قالت أنّها تحبّ شعبها) وشعب (ترقب هذا الحبّ طويلا دون جدوى)، بل بين مشروع تأبيد لتبعيّة «الرعاع» أمام «دولة المركز» في اغتصاب للجغرافيا على عتبة التاريخ.
أهالي الجمنة الذي أحييوا الأرض بعد موتها، بإمكانهم نقل التجربة إلى باقي البلاد، لتنتفي نظريّة «يتم الشعب» الذي أسّست له دولة الاستقلال ولا تزال تعيش منه بل تتمعش الحكومات جميعها (دون الاستثناء) إلى يوم يوسف الشاهد هذا..
المصيبة ليست في منطق «دولة البايات» الحاكم إلى يوم الناس هذا، بل أن يتحوّل مبروك كورشيد من «ثائر بالسليقة» إلى «مخازني مؤقت»… تلك مسألة أخرى، لها عائدون بإذن الله…