رجوعا إلى التاريخ القريب (منذ 14 جانفي 2011) يمكّن من التأكّد بالدلائل والقرائن أنّ الأحزاب التي راهنت على الشارع، بقيت ولا تزال وستبقى بعيدة عن الدخول في معادلة الحكم والمشاركة في تسيير الشأن العام. اليساريون الذي نزلوا إلى الشوارع متهمين النهضة عامّة والغنّوشي على وجه الخصوص، في أقلّ درجات التخفيف بما يقولون أنّها «المسؤوليّة السياسيّة» وفي أقصاها في الوقوف المباشر وراء عملتي اغتيال شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وراهنوا على الرئيس السابق الباجي في انتخابات 2014، على اعتبار تمكينه من أصوات المناصرين للوقوف في وجه النهضة، ومن ثمّة إشراكهم في الحكم، اكتشفوا في مرارة لم يجدوا لها تصنيفًا أنّ «البجبوج» مارس تجاههم «خيانة موصوفة» حين رماهم ونفض يديه منهم، بل ما يجعل المرارة علقمًا، أنّه تحالف مع من قالوا ولا يزالون أنّه «سفّاك وقتّال الأرواح»…
لم يكن الباجي عاطفيا حين تحالف مع اليسار واعتبرهم رأس الحربة في زعزعة النهضة ونجح في جزء كبير في ذلك، بل نظر إلى طيف اليسار المؤمن بالتحالف «الظرفي/الموضوعي» مع مشتقات التجمّع وأحزاب الدولة العميقة، في صورة «أدوات شغل» لا غير. معادلة «التشغيل الوظيفي» هذه تتخذ بعدًا جديدًا راهنًا، حين لا وجود لأوّل مرّة (منذ حكم الترويكا) مشتقّات التجمّع وأحزاب الدولة (في نسخة ما قبل 14 جانفي) خارج الحكم، ومن ثمّة تحوّل منطق «التشغيل» من وريث تجمّع «فاعل» ويسار «مفعول به» (زمن بن علي وفترة الباجي) إلى وريث تجمّع «مفعول به»… من يكون الطرف «الفاعل»؟؟؟؟
تمارس عبير موسي تجاه الأطراف الإسلاميّة ما كان التجمّع يأمر أطراف أخرى بممارسته. رجوعًا إلى التاريخ نجد أنّ صحافة التجمّع الدستوري الديمقراطي (حينها) من «حريّة» و«رونوفو» ترفّعت دائمًا وأبدًا عن السقوط في مستنقع الشتم الفظيع والتحقير دون حدود. تركت هذه الأدوار التي تمارسها عبير موسي وحزبها (راهنًا) إلى أطراف «يساريّة» قبلت بالدور تحت تعلّة «التلاقي الموضوعي» مع المشغّل…
بعد 14 جانفي شارك حزب «التجديد» وإن كان بوزير واحد، وهو الحزب «اليساري» (البورجوازي كما يصفه بقيّة اليسار) الذي لم يمارس الصدام في الشارع، بل لم يجعل من هذا الصدام قاعدة ممارسة ضمن برنامجه السياسي.
تحتلّ عبير موسي جزءا غير قليل من الاهتمام الإعلامي واستحقّت عن جدارة أن تحوز ليس فقط «العدوّ الأكبر للنهضة» بل هي (الشخص ومن وراء ذلك الكيان السياسي) «البعبع» الذي حوّل أحلام النهضويين وراشد الغنوشي عامّة إلى كوابيس لا تنقطع.
من الواجب التذكير أن معادلة «التشغيل الوظيفي» لم تكن على علاقة زمن سيطرة دولة بن علي على الحكم، مع اللعبة الانتخابيّة، في حين أنّ هذا الرابط ليس فقط قائم راهنًا، بل هناك علاقة عضويّة، حين يمكن التأكيد أن عبير موسي استطاعت الحصول على لقب «العدوّ الأشدّ للنهضة» وقد مكّنها ذلك من تحصيل عددا هامّا من الأصوات في الانتخابات الفارطة، وتأمل بل هي تعمل على مضاعفة عدد المقاعد في الانتخابات القادمة، بمواصلة عدائها للطيف الإسلامي.
ليس هناك تطابق في تونس راهنًا بين التأثير الفعلي والفاعل في المجتمع، من جهة، مقابل نسبة المقاعد ضمن مجلس نوّاب الشعب، لسببين :
أوّلا : الانخفاض في نسبة المقترعين ومن يرون جدوى في ممارسة هذا الحقّ، لعدم الثقة لا في الاقتراع ذاته ولا في الانتقال الديمقراطي برمّته.
ثانيا : قدرة الاعلام على التأثير في المشهد السياسي، حين نشاهد منذ انتخابات المجلس التأسيسي أنّ جميع الأحزاب الحاصلة على أفضل النتائج في أيّ انتخابات انتهت (باستثناء النهضة) إلى الدرك الأسفل في الانتخابات الموالية.
تقف تونس بذلك أمام مشهد ليس فقط شبيها بصفيح بركان ساخن، بل يمكن الجزم (بخصوص عبير موسي مثلا) أنّها ليست أكثر كفاءة سياسيّة من الراحل الباجي قائد السبسي، وبالتالي حزبها ليس أوسع انتشارًا من «نداء تونس» (زمن العزّ) ومن ثمّة يكون السؤال: لفائدة من تشتغل هذه المحامية سواء عن علم ودراية أو هي تحلم بالجلوس (يومًا ما) على عرش قرطاج ومن ثمّة أخذ الثأر من الزمن الذي غدر ببن علي وبعثر أحلامها وجعلها كوابيس هي بصدد تمريرها إلى الغنّوشي…