من ذلك يبدو جليّا، أنّ لا اختلاف بين الطرفين، لا على الهدف ولا على ضرورة الوصول إليه، ولا حتّى على الدرب الموصول، فقط الاختلاف قائم حول «الصاعق» [بالمفهوم العسكري] الذي من خلال تفجيره، ستنطلق السيرورة، أشبه بما هي القنابل المرقوتة التي تلي بعضها البعض.
هذا المشهد الواضح أشبه بلعبة كرة المضرب، «حراك» يخرج معلنا بصوت عال مواقفه يوم الجمعة، مقابل القايد صالح الذي يعلن في هدوء يوم الثلاثاء عادة، احتكر المشهد السياسي، سوى بعض الأقلام، الجالسة على «تقاطع الحراك» (الشعبي) مع «المعارضات» (السياسيّة) وهي تحاول من منطق «الانتماء العضوي» لهذا «المدّ الشعبي» تسجيل مواقف سياسيّة، ليس فقط تكون «رأسمال سياسي»، بل (وهنا الخطورة) ذات «تأثير» (افتراضًي) في الحراك.
الحقيقة الثابتة والخطيرة، بل المحدّدة لجدليّة القائمة في الجزائر: لا أحد قادر على دفع القايد صالح ومن ورائه الجيش الوطني الشعبي إلى «تلبية رغبات الحراك» دفعة واحدة وفي زمن قصيرًا جدّا، كما لا أحد قادر على جعل «الحراك» يذعن لمشيته أو هو يكون طوع بنانه ليفاوض به ومن خلاله. نحن أمام «جيش يرفض استعمال السلاح»، مقابل «حراك عصيّ على الركوب».
وجها الأزمة وتزامنهما، بل أن يطالب أحدهما الأخر بالتحرّك أوّلا، يحيل على بعد فلسفي/سفسطائي: «من جاءت الأولى : الدجاجة البيضة؟؟؟»… الاختلاف أعمق من ذلك: جهل «النخب السياسيّة الجزائريّة» يكمن في عدم فهم أنّ «لوغوس» الجيش [بالمفهوم الفلسفي] مقابل «لوغوس» الحراك» لا يشتغلان من خلال ذات المحرّك أو ذات الوقود.
الجيش الوطني الشعبي يعتمد مبدأ «الخطوات الآمنة»، أيّ لا ينقل رجلا دون تأمين مكان وضعها (هكذا هو عقل العسكر في المناطق الملغومة)، في حين أنّ منحى الحراك فعل تصاعدي من أسبوع إلى آخر، حين يملك «عقل الجيش» مركز تفكير موحد [أشبه بكمبيوتر ضخم جدّا] في حين أنّ عقل «الحراك» عبارة عن ملايين الكمبيوترات المرتبطة ببعضها البعض.
في الحالتين هناك سعي نحو «التميّز» من باب «ربح الوقت» وعدم إهدار الطاقة: الجيش من خلال البحث عن «القرار الصائب» [وفق منطق «الخطوات الآمنة»] مقابل بحث الحراك عن «التناسق» بين مختلف مكوناته. يمكن اختصارًا القول أنّ الجيش عبارة عن هرم متماسك الأطراف والطبقات، يجلس على رأسه القايد صالح، في حين يأتي الحراك أشبه بأيّ سحاب تدركه العين دون أن تحدّد حدوده، أو مداه المتحرّك من جمعة إلى أخرى…
بين القطبين، تدور العديد من الكائنات الطفيلية، لا هي مؤمنة بدور الجيش المحوري ولا هي قادرة على تمثيل الحراك، ديدنها في ذلك الاتكاء (ظاهرًا) على الحراك، ومحاولة الظهور في صورة الطرف في الجدال الدائر بين «خرجات القائد صالح» مقابل بعض «شعارات الحراك» المناوئة للجيش وقيادته. دون أن ننسى (من باب الأمانة) عديد الأقلام القادرة في الآن ذاته، على وضع الحراك أمام نقاط ضعفه، وكذلك عدم تمكين قيادة الجيش من صكوك على بياض.
مردّ هذه «الانتهازيّة» أيّ اختلاف الموقف تجاه الطرفين: معاداة الجيش و«منافقة» الحراك، يكمن في سهولة على درجتين: وضوح قيادة الجيش [فرد واحد] وكذلك اليسر الكامن في ادعاء التعبير نيابة عن الحراك، أشبه بالمحامي [المتطوّع] بحثًا عن الشهرة.
يبقى «المنجل» [رمزًا للمحاكمات التي طالت رموز نظام بوتفليقة] جسرًا رابطا بين القطبين، حين يتخيّل الجاهل أو المجنون، فقط، أن «حكومة بدوي» شربت «حليب السباع» وشرعت في هذا الماراطون من المحاكمات.
حين نبحث عن دليل مادي لتبيّن «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» من أجل تصنيف الساحة السياسيّة الجزائريّة، في علاقة بما هو «محور الجيش/الحراك»، يمكن أن نعتبر الموقف من هذه المحاكمات دليلا أو معيارًا أو سلّما نرى به، من يكيل بمكيالين ومن ابتلع المكاييل جميعها.
بالمفهوم التاريخي، نحن أمام سيرورتين متلازمتين: عجلة الجيش تدور مقابل خطّ الحراك من ناحية، بحثا عن «موعد تلاحم» مثل المحطات الفضائيّة، مقابل عملية تطهير تشمل دواليب الدولة وكلّ درجاتها. لتلتقي السفينتان عندما تنتهي عملية التطهير…