الأهمّ بل الفارق في اعتراف الرئيس التونسي والقائد العام للقوّات المسلحة في البلاد محمّد الباجي قائد السبسي، على شاشة إحدى القنوات التونسيّة، بوجود طائرات دون طيّار أمريكيّة يسيّرها أو يشرف عليها سبعون من قوّات المارينز:
أوّلا: أنّه إقرار رسمي لا لُبس فيه ولا غبار عليه، من الجهة الأعلى، على مستوى المنصب والقرار، بما (كانت) صرّحت به وسائل إعلام ووكالات أنباء وردّ عليه الجانب التونسي بالتكذيب، بدءا بالناطق الرسمي بإسم وزارة الدفاع التونسيّة، بلحسن الوسلاتي، وصولا إلى وزارة الخارجيّة، ممّا يعني (وهنا الخطر والمصيبة) أنّ الباجي (بهذا الاعتراف)، كذّب وسفّه وحطّ من قيمة «مراكز نفوذ» ذات قيمة سواء على مستوى السير العام للحياة السياسيّة كما العسكريّة أو (وهذا خطير كذلك) «موازين القوى» في بلد «متحرّك» وكذلك «غير مستقرّ» مثل تونس,
ثانيا: يأتي الاعتراف، رغبة من الباجي قائد السبسي، السياسي المحنّك وصاحب الخبرة الطويلة، في المرور بهذه «القضيّة» (التي كانت بين ابهام وسريّة) إلى «الوضوح» التامّ، ومن ثمّة إعلان تونس (رسميّا) طرفًا في التجاذبات الخطيرة بل المفزعة التي تعيشها المنطقة، سواء في علاقة بالشأن الليبي أو العلاقات مع الجزائر…
محاولة رئيس الجمهوريّة الهروب بالمسألة (الوجود العسكري المسلّح) إلى «ضبابيّة التأويل»، أيّ الاعتراف بوجود الطائرات كما جنود المارينز، وعدم القول، أو هو النفي القاطع، لوجود «قواعد أمريكيّة» أشبه أو هو بالضبط، ذلك «التلاعب» باللفظ وكذلك «العبث» بالتوصيفات، من باب تزيين الواقع وتزييف الحقائق، لا غير…
من الصعب أو هو المستحيل أن تمسك تونس (كما حاول الباجي) العصا من الطرفين، أيّ وجود قواعد عسكريّة أمريكيّة على أرض بلاده، مع كامل الاستتباع القائم والقادم، وفي الآن ذاته الحفاظ على علاقات طبيعيّة أو طيّبة مع الجارين (أيّ ليبيا كما الجزائر). الأمر لا يعني كما قال الباجي «إبلاغ الجزائريين» أو أيّ شكل من «التفاهمات» لأنّ الجميع يعلم ويدري (بل هو اليقين) أنّ الطائرات والأسلحة التي تحملها هذه الطائرات، كما معدّات التجسّس والتصنّت والمراقبة، دون أن ننسى السبعين جنديّا، لا تخضع ولا يمكن أن تكون (بأيّ صفة كانت) تحت امرة «القرار التونسي» (سواء العسكري أو السياسي)، بل كما درج الأمريكيون (منذ وجود دولتهم وفي كلّ البلدان)، يجعلون قيادة جندهم وعتادهم «أمرًا أمريكيّا خالصًا»، ممّا يعني (على خلاف ما قال السبسي) أنّ تونس عليها توفير «الأرض» التي يختارها الطرف الأمريكي، وثانيا (وهذا الأهمّ) تسير حماية «خارجيّة» لهذه القواعد، دون أدنى قدرة أو هي سيطرة ومن ثمّة سيادة، على أيّ بقعة تقرّر الجهات الأمريكية أنّها ممنوعة على «غير الأمريكيين» (داخل القواعد)…
هذه الأمور، أيّ سيادة الجهات الأمريكيّة، على أي «أرض» تدوسها أرجل جنودهم ويكون فيها عتادهم، من الأمور التي لم تناقشها الولايات المتحدة الأمريكيّة، مع بلدان «أقوى» من تونس وأشدّ قدرة على فرض الشروط، ومن ثمّة لا نقاش ولا كلام، بل هو ضحك على الذقون مجرّد القول أو حتّى الادّعاء أنّ هذه «القواعد» التي تربض فوقها الطائرات ويقف فوقها الجنود هي «أراض تونسيّة» أو بالأحرى «تخضع» للسيادة التونسيّة، العسكريّة منها أو السياسيّة. بل هي أشبه بثقب في الخارطة، وفق ما نصّت عليه «تسريبات» بروتوكول التعاون الذي أمضاه محسن مرزوق تحت نظر بل ابتسامة (النهضاوي) أسامة الصغيّر، الذي كان ضمن الوفد وحضر حفل التوقيع…
من السذاجة والغباء، التركيز على الباجي وحده (أو هي تصريحات إن لم نقل اعترافاته) وكذلك من السذاجة والغباء، التركيز على محسن مرزوق لحظة «الإمضاء الأخير» (على شاكلة «العشاء الأخير»)، بل الدلائل ثابتة بأنّ هذه الطائرات (وإن كانت حينها دون سلاح) كانت تقلع من «أراض» تونسيّة وبعلم سلطات تونسيّة، زمن الترويكا وبعلم من قاداتها (رئيس الجمهوريّة محمّد المنصف المرزوقي أساسًا)، بل بتراوح بين المباركة الضمنيّة أو غضّ الطرف، ومن ثمّة وجب العود «أخلاقيا» بالمسألة إلى أصولها التاريخيّة، سواء من باب «التوصيف» (الصحفي) أو «تحديد» المسؤوليات (التاريخيّة)…
بعض الأصوات داخل تونس، حاولت ولا تزال النزوع بالقضيّة منزعًا براغماتيا/ماكيافيليا ينزع دون أيّ معطى أخلاقي أو هو ينفيه، حين يربط بين «حاجة تونس» إلى «الحماية» مقابل ما توفّره هذه «الطائرات» من «معلومات» أو حتّى «ضربات»، ومن ثمّة (وفق ذات الرؤية) على تونس أن «تحمي أمنها» رغم ما (قد) تؤتيه هذا الأفعال من «أضرار» (جانبيّة) بأمن الدول الصديقة والشقيقة وخاصّة المجاورة…
من يدرسون علم التاريخ العسكري والسياسي الأمريكي، يجزمون جميعًا (منذ إعلان الاستقلال) إلى يوم الناس هذا، أنّ الفعل السياسي والعسكري الأمريكي، يخدم فقط (وحصرًا واستثناء) المصلحة الأمريكيّة، ومن ثمّة تأتي «مهمّات» (هذه) الطائرات وكذلك (هؤلاء) الجنود، بناء على «أوامر أمريكيّة» (صرفة) خدمة لما هي «المصالح الأمريكيّة» (خالصة) دون قدرة «بلد الضيافة» أن يضع شروطا أو أن يجعل الأمر من باب الالزام، بل ثبت بالدلائل التاريخيّة الجازمة وغير القابلة للنقاش، أنّ الولايات المتحدة وسياستها وجيشها وأسلحتها، عملت جميعها لضرب مصالح دول استضافتها، سواء في العراق أو أفغانستان وكذلك باكستان، ممّا يعني (وهنا خطورة ما قاله الباجي): لا يمكن لأيّ جهة تونسيّة، بما فيها رئيس الجمهوريّة والقائد العام للقوّات المسلحة التونسيّة، أن يعلن مجرّد الإعلان، أنّ هذه الطائرات وهؤلاء «المارينز»، خضعوا «مرّة واحدة» (واحدة فقط) لما يمكن تفسيره في شكل «الأمر/الإلزام» (مهما كان هذا الأمر وهذا الإلزام) من جهة تونسيّة مهما علا مربطها…