مهما يكن الموقف (الشخصي أو السياسي) من الباجي قائد السبسي (الشخص أو الشخصيّة السياسيّة)، يمكن الجزم أنّه يدري ما يفعل ويعي ما يقول، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ كلامه (نظرا لموقعه الرئاسي وقيمة حزبه وماضيه السياسي الطويل) يمثّل جزءا أو هو الجزء الأهمّ من مواقفه السياسيّة، سواء ما يبغي بها الفعل الحقيقي أو المناورة فحسب.
كلام الباجي عن أنّ «المهدي جمعة ورضا بلحاج ومصطفى كمال النابلي ومحسن مرزوق غير مؤهلين لتقلّد منصب رئيس الجمهوريّة» يأتي فرزًا للساحة السياسة وتصفية حساب مع هؤلاء ليس فقط على خلفيّة «الصراعات السابقة»، بل (وهذا الأهمّ) على ضوء «التطوّرات المقبلة»…
يعلم الباجي يدري الكثيرون أنّ الرجل لا يزال له من «الرصيد الشعبي » ما هو قادر على تغيير المعادلات وكذلك التأثير في مجريات الأحداث السياسيّة (الانتخابات أساسًا)، وكذلك للرجل امتدادات داخل الدولة ما يجعله نافذ وقادر على تغيير المعادلات وإعداد «العدّة» خدمة لهذا أو توظيفًا ضدّ ذلك.
للباجي كذلك «ورقة» أحسن استعمالها وتوظيفها في مهارة كبيرة، حين استطاع أن يجعل من «النهضة» ليس «حليفًا» (فقط) بل تلك «الحركة» التي أمضت على بياض في كلّ المواجهات التي عرفها الباجي، ومن ثمّة يمكن للرجل الجزم بل التصرّف أنّه «يتكلّم نيابة عن هذا الحلف»….
ما الذي يجعل الباجي يهدي إلى «رجال بن علي» مثل هذه «الهديّة» التي جاءت (شبه) مجانيّة، حين أشاد «بكفاءة الوزيرين السابقين (في عهد بن علي)، النوري جويني وعفيف شلبي»؟؟؟
يمكن الجزم أنّ الرجل (أيّ الباجي) بصدد إعادة ترتيب الأوراق السياسيّة، على الأقلّ في ما تعلّق بخصوم الأمس «الطامعين في إرثه والطامحين لمنصبه» حين استبعدهم جميعًا، واستعاض عنهم (اعتباريّا على أقلّ) برجلين من «العهد السابق» لا يملكان ذلك «العمق الجماهيري» (الأكيد) أو تلك «الآلة» التي تأتي تحت تصرّف «المغضوب عنهم»…
الرجل لا يهدي للرجلين موقعًا بالضرورة ولا يجعل من أيّ منهما ذلك «المرشّح»، بل جاء ذكرهما في معرض استبعاد الأسماء «المحترقة» أيّ التي لا يرضى الباجي عنها، سواء للعمل معه أو لخلافته…
من الأكيد أنّ حركة النهضة ستمضي في صمتها الموافق للرجل، حين أعلن كل محسن مرزوق خاصّة أنّها «عدوّة» وكذلك تعلم النهضة أنّ قادرة (من خلال الباجي) على «تنظيف الساحة السياسيّة» أو (على الأقلّ) تقليم بعض الأظافر وتقزيم بعض الشخصيات التي (من مفهوم النهضة) وجب أن تبقى، لكن دون أن يزيد حجمها عمّا يزعجها ويزعج «الشيخ» الباجي…
كلام الباجي شديد الأهميّة على مستوى إعادة ترتيب الأوضاع داخل البلاد، خصوصًا على المستوى الحكومي، حين يعلم الجميع أنّ حكومة الحبيب الصيد تعيش أخر أيّامها، وأنّ البلاد مقبلة على «حكومة جديدة» تهمّ الباجي في تكوينها ومن فيها، وتهمّ أكثر النهضة بما ستفعله هذه الحكومة والنتائج المترتبة عن ذلك.
من ذلك تأتي «حرب التقزيم» من أدوات اعادة تشكيل الخارطة السياسيّة في تونس، حين يعلم الباجي أنّ رصيده الشعبي قابل للتفويض في أيّ لعبة كانت، وأنّ غياب القامات السياسيّة المماثلة سيجعل منه «يفعل ما شاء وأراد بمن شاء وأراد» تحت «عين النهضة»، التي تستغلّ «هوسه» بالسلطة بل بالفردانيّة.
إنّها المعادلة الجديدة، الباجي «ينظف» والنهضة «تبارك» (في صمت)، وخصوم الباجي ينحدرون ورجال بن علي يصعدون، مع التأكيد أنّ الباجي والغنّوشي أسّسا لما يمكن تسميته «مواصفات الصيد» أنموذجًا في اختيار «رئيس الحكومة» أي ذلك الرجل «صاحب الكفاءة» دون العمق الحزبي أو الجماهيري القادر على جعله يفكّر في اللعب بمفرده…
الاختلاف أو هو الخلاف بين النهضة والنداء يكمن في أنّ «الندائيين» يملكون شهيّة مفتوحة ومفضوحة لتقلّد منصب «رئيس الوزراء» في حين أنّ النهضة (لأسباب موضوعيّة) تأتي أكثر «تعفّفًا» ومن ثمّة تفضل ترك المنصب، وحتّى عدم نيل ما يوازي مقامها في البرلمان من مناصب…
إنّه الرحى «الخلافي» (الوحيد) أيّ توزيع «كعكة» الحكومة القادمة، حين يريدها الباجي لتوازنه الشخصي وتأكيد سيطرته أو هي سطوته (الظاهرة)، وتريدها النهضة لتزيد من «استقرار المشهد» (السياسي) وفق المقاييس التي تعتمدها، وأوّلها التأكيد للجهات الاقليميّة الفاعلة والمراجع الدوليّة، بأنّها «اللاعب» (الأفضل داخل البلاد) وأنّها كذلك «أفضل» من يؤمّن استقرار البلاد وأمنها.
على وقع ما جرى في صبراطة، سوى القصف الجوّي وما خلّف من قتلى أو «الاستنتاجات» التي ذهبت إليها هذه الجهة أو تلك، يمكن الجزم أنّ تونس (قد) تدخل «عين العاصفة» (مجدّدًا) أو هي قد تبقى فيها (لفترة)، ممّا يعني ليس فقط أن الساحة السياسيّة التونسيّة ستتأثّر، بل ستتبدّل المعادلات وتأتي معادلات جديدة، تنفي وتلغي ما هو قائم من توازنات متقلّبة بالأساس بين الفاعلين السياسيّين…