تجاوزت بعض المواقع والمصادر الاخباريّة، كثيرها عن سذاجة وضعف المستوى وقليلها عن سوء نيّة، مسألة عودة بن علي من بعد الشكّ الذي يحيل على المحملين، إلى مرتبة «الحقيقة» التي ليس فقط تنتظر التأكيد، بل هي قاب قوسين أو أدنى من التطبيق، أيّ عودة «صانع التغيير» إلى تونس، وما تعني المسألة من تأثيرات سياسيّة وما تحيل عليه من رمزية وسط محيط (ما يسمّى) «الربيع العربي»…
منبت هذه القصّة كان قول بعض المصادر (غير المعلومة بالإسم والصفة والوظيفة) عن لقاء جمع وزير الداخليّة الحالي لطفي براهم، أثناء زيارة أدّها منذ أيّام إلى المملكة العربيّة السعوديّة، قابل خلالها الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي تمّ تهريبه دون موافقته.
عند هذا الحدّ ينتهي سيل الأخبار غير معلومة المصدر، فاتحًا المجال لمن شاء أن يدلي بدلوه دون العود إلى أصل المعلومة، أيّ صدقها من عدمه، وثانيا دون قراءة الواقع السياسي المحلّي والاقليمي والدولي، المرتبط بما تكون عليه «حكاية بن علي» من تداخل بين اطراف داخليّة وأخرى تتراوح بين اقليميّة ودوليّة.
وجب القول أنّ عودة بن علي كما مغادرته التي تمّت يوم 14 جانفي، تتعدّى وتتجاوز بكثير جدّا الجانب التونسي المحلّي، بل يمكن الجزم أنّ الطرف التونسي ضمن «لعبة المغادرة» لم يتجاوز دور التنفيذ من باب طاعة التعليمات الأمريكيّة الصريحة والجازمة والواضحة، ومن ثمّة يمكن الجزم أن الولايات المتحدة الأمريكيّة، هي الممسك لأغلب أوراق ملفّ بن علي، إن لم تكن جميعها.علمًا أنّ ليس في الأمر عنتريات أو بطولات أو انجازات خارج الخطوط الحمر التي حددتها الجهة الأمريكيّة التي أشرفت على «التهريب» ولها اليد الطولى والأطول في مسألة بقائه من عدمه أينما هو.
لذلك يكون من الواجب طرح السؤال التالي:«ما الذي يدفع الولايات المتحدة إلى التفكير راهنا بالعود بمن قامت بتهريبه». العقل الأمريكي سواء الذي يعمل في مجال الرصد وجمع المعلومات، أو التمحيص والتحليل، وحتّى من يعدّ القرار ومن يتخذه ومن ينفذه، لا يقفون أمام «محرّمًا» أخلاقيا وقانونيّا، عند «مسألة/حكاية بن علي»، بل كما دأب هذا العقل، يطرح سؤالين، أو هي جملة من الأسئلة تدور في محورين:
أوّلا: ما هي دواعي العودة وما هي المنافع المرجوّة؟
ثانيا: ما هي المخاطر التي ستنجرّ عن هذه العودة وما هي سبل تفاديها أو الوقوف في وجهها.
بين الطبقتين يتراوح العقل الأمريكي أشبه بالتاجر أو هو ذلك التاجر الذي ينظر إلى أيّ بضاعة، مقدّرا ثمن بيعها المرجوّ ومن ثمّة ربحه المحتمل أو خسارته في حال وقوعها، ليكون القرار على قاعدة عملية طرح حسابيّة شبيهة بالتي يجريها أبسط تاجر أمام أبسط بضاعة في العالم.
يقرأ العقل الأمريكي الواقع التونسي وهو يعلم أنّ السواد الأعظم أو بمفهوم الحساب والنسب، الأغلبية الغالبة، تأتي رافضة لعودة «كريمة» لهذا الرجل، إلاّ إذا تعلّق الأمر بما هو مطلوب من أجله من قضايا ومحاكمات، ويعلم الطرف الأمريكي أنّ ردود فعل الرافضين في علاقة بفعل المناصرين، ستتحوّل إلى «عنف» ليس مضمونًا أن تستطيع «الآلة الأمنيّة» ضبطه، ومن ثمّة يأتي الاحتمال قائم على عنف متبادل دون حدود، ممّا سيؤثّر أو (ما هو أخطر) سيهدّد (ما يسمّى) «المسار الديمقراطي» الذي يعلم الأمريكان بخصوصه، أنّه «هشّ» وغير قابل لمثل هذه الهزّات.
وجب القول بل التأكيد بما لا يدع للشكّ، أن استقرار الوضع في تونس على أبهى حال، أو انخرام الوضع فيها على أسوأ حال، ليس غاية في حدّ ذاته بالنسبة للطرف الأمريكي والأطراف الأوروبيّة ذات العلاقة الاستراتيجيّة في تونس. فقط هذا وذاك، مجرّد وسيلة وأداة بل هو استثمار، بالمفهوم التجاري الرخيص، لتكون الخلاصة : «الوضع في تونس مفتوح على المجهول، في حال عودة بن علي»…
كذلك والأمر لا يقبل النقاش: لا تنظر الولايات المتحدّة إلى تونس منفردة ولا إلى الاستقرار أو انخرام الوضع فيها، منفصلا عن خارطة (ما يسمّى) «الشرق الأوسط وشمال افريقيا» MENA، ليكون السؤال التالي: «أيّ دور لتونس ضمن هذه الخارطة راهنًا، وأيّهما يخدم المصالح الغربيّة عمومًا والأمريكيّة خاصّة: الاستقرار أم الانخرام؟»»
الأكيد أنّ الولايات المتحدة كما الغرب عمومًا ينظر إلى القطر الليبي المجاور في صورة «المعضلة الواجب حلّها» وينظر إلى القطر الجزائري في صورة «المعضلة الواجب طرحها»، ومن ثمّة تأتي الحاجة التي أدّت إلى «تهريب بن علي» هي ذات الحاجة (مع فارق الزمن والظروف) التي تمنع عودته أو بالأحرى تجعل احتمال العود به أسفل ترتيب الاهتمامات.
كما احتاج «حلف الناتو» تونس مستقرّة أثناء (ما يسمّى) «الثورة الليبيّة» سواء في صورة قاعدة خلفيّة للعمل أو لاستقبال اللاجئين أو حتّى تمرير السلاح، أثناء فترة حكومة الباجي، تحتاج ذات الجهات تونس قاعدة خلفيّة حين صارت ليبيا معضلة ليس فقط تبحث عن حلّ بل وجب أن تذهب في الاتجاه المرسوم لها، أو على الأقل، ألاّ تذهب في الاتجاه المضرّ بالمصالح الغربيّة عامّة والأمريكيّة خاصّة.
مكانة لببيا عظيمة والبلد مهمّ، سواء لموقعه الاستراتجي الهامّ، أيّ نقطة وصل بين المشرق والمغرب، ونقطة ربط وعبور بين عمق افريقيا والمتوسطّ وسواحله الشماليّة، إضافة (وهذا الأهمّ) إلى ما يزخر به هذا القطر من خيرات، أوّلها النفط (الأفضل نوعيّة في العالم) ومعادن أخرى ومواد استراتيجيّة، على رأسها الأورانيوم في الجنوب.
المصلحة الأخرى بل التي لا تقلّ أهمّية، تكمن في تحويلها إلى «بؤرة إرهاب» أشبه بما كان عليه الوضع في كلّ من العراق وسورية، ومن ثمّة تحريك هذا الارهاب ليتحوّل إلى «قوّات سريعة» تضرب مصالح الأخرين، وتؤدّب عن طريقهم الدول المارقة أو غير المطيعة، وحتّى التي لا تستجيب في سرعة.
ضمن هذه المعادلة وتقاطعها، تمّ تهريب بن علي يوم 14 جانفي والحال أنّ الرجل كان يملك من القدرة والرجال والسلاح وخاصّة من النفوذ، ما يجعل البلاد تدخل في نفق أشبه بالسيناريو الليبي، فكان القرار الغربي والأمريكي خاصّة بالاحتفاظ بهذه «الرقعة الصغيرة» التي يكاد أنفها أن يمسّ أوروبا، وعمقها بين الجزائر وليبيا، أشبه بما هي «بيت الندوة» عند قريش، تتلاقى عندها «القبائل»، واضعة سلاحها، لتعود تقاتل بعضها البعض على امتداد الصحاري والفيافي..