أسوة بالكائنات اللاحمة التي خلدت إلى سبات عميق، لتستفيق، وقد أصابها نهم شديد، دفع بها للخروج من جحورها يسعى طيف من الساسة وراء رزق علّهم يصيبونه، خاصّة وأنّ المنافسة ستشتدّ في قادم الأيّام والشهور، إلى حين يصير يوم الحسم ويضع المقترعون الورقة في الصندوق، سواء كان الحسم من الجولة الأولى أو تطلّب الأمر المرور إلى جولة ثانية.
تتباين القدرات بين هذه الكائنات، وتخلف الإمكانيات بينها. بين من يرى وجوب الهجوم على «الفريسة» مباشرة ودون ترقّب أو بطء أو انتظار، مقابل من يلجأ إلى المداورة واعياء «الفريسة» لتسقط بين يديها بأقلّ جهد منه.
هذا الاختلاف في الرؤى والقدرات وبالتالي المقاربات وطريقة السعي إلى السيطرة على «الفريسة»، تقف جميعها أمام «وحدة خطاب»، مختصره أنّ كلّ متكلّم لا يرى فقط في ذاته «من سينقذ البلاد والعباد»، بل هو «الأوحد القادر على أداء هذا الدور» والأشدّ خطورة من ذلك أنّ «جميع هذه الكائنات، ترى فيمن يشتركون معه في «إنقاذ تونس» مجرّد تشويش وجب إزالته».
ليس هناك مجالات للمراوحة أو يضيق هامش التنسيق ومجال البحث عن «المشترك» بينهم أو بالأحرى جميع من قبل مبدأ مناقشة إمكانيّة «البحث عن مرشّح جامع». يفعلون ذلك ليس إيمانًا بمبدأ النقاش أو تسليمًا بحتمية الوصول إلى «هذا المشترك»، بل من باب اليقين (داخل كلّ منهم) أو بالأحرى هي «حتميّة» أن يكون هو «المرشّح المنتظر».
جميع الخيارات الأخر مرفوضة مهما كانت. جميعها يجانب الصواب وعاجز بطبيعته. هو الوحيد القادر على «انقاذ تونس» وسواه بين مدّعي ما لا قدرة له أو من هو يفتقد القدرة على تقييم الوضع وقراءة المشهد كما يجب. لا خيار أخر غيره. جميعهم يشتركون في الرغبة في «انقاذ البلاد» من براثين «الانقلاب».
سيرتفع عددهم ولا أحد يعلم أو بمقدوره استشراف كم سيكون منهم في السباق، أو بالأحرى من سيكون منهم في الموعد.
جميعهم يشترك في شعار «انقاذ تونس» وجميهم يصرّ إصرارًا ويلحّ إلحاحًا مقسمًا بالأيمان الغليظة جدّا، أنّه «الأوحد» ولا أحد سواه، قادر على إتمام هذه «المهمّة المقدّسة». شرط ذلك أن يتراجع بقيّة المتسابقين، بل أكثر من ذلك، يعقدون له الراية ويسيرون خدما وحشمًا أمامه، يعبّدون الطريق ويفرشون الدرب بما يجعله يفوز ويحقّق الانتصار.
جميعهم دون استثناء مهما كانت درجة «الشهرة» والقدرة على جمع الأصوات، يحدوه إيمان الأنبياء أنّه «المنتظر» (الأوحد) الذي سيسقط قيس سعيد ويستوي على عرش قرطاج.
تخاصموا في السابق وبلغ الأمر حدّ تبادل الشتائم وكاد الأمر أن يتطوّر أكثر. كل يشترط من الجميع التنازل له والتحوّل إلى «نحل عامل» في خلية يتصارع من فيها. كل يزعم الكلّ أنّه «الملكة القادمة».
عجزت الساحة السياسيّة عن فرز نخبة أو بالأحرى نخب جديدة، بعدما غادر المشهد من كانوا إلى ماض قريب جدا (بالمعنى السياسي للزمن) من أهمّ الفاعلين أو هم من يفعلون وغيرهم يكتفي بالمشاهد وإطلاق الملاحظات التي لا هدف من ورائها سوى تعكير المناخ العام للبلاد.
أشبه بالبدو الرحل الذين يعاودون مواطن الرعي حين تصيب الأرض بعد الأنواء. يجتمعون فوق ذات المساحة. كلّ يريد إقناع أهل الحضر كما أهل الوبر أنّه «الآلهة» القادرة على ضمان المرعى للقطعان ودوام الرخاء وتأبيد الخيرات التي ستزول حتما زمن الجدب والقحط.
سوق عكاظ أو يزيد. كلّ يسعى إلى مقايضة «الولاء» له وكذلك «البراء» من الخصوم جميعهم دون استثناء، عندما يستوي الشقيق التوأم مع الأشدّ بعدًا، طالما أنّ الكرسي واحد لا يحتمل القسمة أو المشاركة…
هذا يوزّع بعض مفاتن الدنيا معتقدًا أن البطون المتخمة والجيوب المنتفخة، أو هكذا شبّه له وفق روايات أخرى، ستفي بوعودها يوم «الحساب»، وذاك يلقي على العامّة ما ابتدع من جميل القول وحسن البيان وما جادت به قريحته. كلاهما يحلم بأن «الصدى» سيكون من القوّة ما سيجعل النصر ساحقًا، ليجلس على عرش البلاد.
دون الحاجة إلى آلة حساب، يمكن الجزم بأنّ هذه الفيالق قادرة على التأثير في المشهد وربّما قلب المعادلة، في حال ترفّع جميعهم وتنازلوا عن حلم «الرئيس المنتظر». لكنّ القرص المشروخ ذاته «أنا الأولى بالرئاسة، ولا أحد غيري».
حصل أن تراجع بعضهم بعد أن تيقّن أنّ الحلم بعيد، وأكثر من ذلك مكلف ولم يجد من «أهل البرّ السياسي» من فتح له خزائنه ليغرف منها ما شاء وأراد. انسحاب دون إعلان عن تأييد أحد الذين لا يزالون يحلمون «فيروس قرطاج»… أو هو دعم «ليس لوجه الله»…
لسائل أن يطرح من منظور علمي بحت، ودون تخوين ودون السقوط إلى درك الإساءة إلى أيّ كان، عن مردّ هذا «الجنون الموسمي» وأكثر من ذلك، ذلك الإيمان القاطع لدى الجميع بأنّ «المشيئة الربّانية» اصطفت شخصه دون غيره، لهذه المهمّة النبيلة؟
الملفت للانتباه أنّ حالة «الجنون» عامّة، أيّ أنّ عدد «المصابين» في ارتفاع كبير، بل هي حلقات، أوسعها يشمل من لا يملك فكرة أو هي نزوة الترشّح، ليتمّ التضييق نحو من يملك من الوجود الإعلامي ما يجعله يخرج من ضفّة «النكرات» إلى شاطئ الشهرة، فيتحوّل التجوال بين القنوات التلفزيونية إلى رصيد عند الحاجة…
هي أزمة مجتمع «الترحال السياسي» بين الفصول والسبات بقية الشهور. أرض سياسيّة قاحلة، تغري القاعدين ومن احترفوا النوم، بالمشاركة وفق نظريّة «اليانصيب» LOTO الذي يروج لذاته أن مائة بالمائة من الفائزين جرّبوا حظهم، في حين يفهم «المنتظرون» أنّ مائة بالمائة ممن جرّبوا حظهم قد فازوا.
هكذا يفهم قطاع غير هيّن من الطبقة السياسيّة في بلاد «الفوز»، مع وجوب القول أن المترشحين ينقسمون إلى أربع مجموعات :
الصنف الأوّل : حواشي اللعبة ومن ينظرون إلى المناسبة في صورة «سوق عكاظ» حيث لا حدود للتفاهة.
الصنف الثاني : من يرى «العبرة بالمشاركة» وأنّ صفة «مترشّح سابق للانتخابات الرئاسيّة» كاف لدخول هذه المعمعة مهما كانت التكاليف دون أدنى أمل في النتيجة.
الصنف الثالث : من (بلغة كرة القدم) يحتلون وسط الترتيب. دون أدنى حظ في الفوز ولا هم نكرات تستوجب النسيان.
الصنف الرابع : أهل العقد والحلّ، ممن يرون أنفسهم فعلا في صورة الفائز.
إلى حدّ الساعة لم يتبيّن المشهد ولا تمييز بين الخيط الأبيض والخطّ الأسود.
لا تزال بورصة الانتخابات الرئاسيّة في ساعات ما قبل افتتاح السوق على مصراعيها. لكن الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ كثرة الساق ومنها السيقان والأسواق، لا تبشّر بفائز محتمل بين هؤلاء الراكضين وراء سراب تبخّر منذ أمد بعيد…