دون الضرب في الرمل أو الرجم بالغيب، أو السقوط في نظريّة «المؤامرة» وعند الاكتفاء (حصرًا ودون غيره) بالتشخيص المباشر، يمكن الجزم أنّنا أمام سلسلة «خرجات» بالمفهوم «الفرجوي/المسرحي» للفاعلين الكبار/الأوائل على المشهد السياسي التونسي. كلّ يدّعي «وصلا بتونس» والحال أنّ كلّ منهم، حقّق أمرًا جاء يطلبه، أيّ جذب الأضواء، ومن ثمّة «تمرير رسالة» ومنها وعلى أساسها «تحقيق المكسب السياسي» (لمن استطاع إليه سبيلا)….
لا أحد في تونس مهما كانت درجة ذكائه ومستوى ادراكه، يصدّق، وإن كان من باب الخيال (العلمي أو الأدبي) أو المجاملة (مدفوعة الأجر)، أنّ يوسف الشاهد يملك مجرّد نيّة «محاربة الفساد»، أو حتّى إرادة مهما كانت بسيطة لذلك. فقط وحصرًا، هو سعي لاستقطاب الأضواء وجمع المعجبين علّ (ونقول علّ) يكونون «ذخرا» أمام صندوق الانتخابات يومًا.
لا أحد في تونس مهما كانت درجة ذكائه ومستوى ادراكه، يصدّق، وإن كان من باب المجاملة، أنّ راشد الغنّوشي (حين تسلّح بربطة عنق) يملك القدرة الفعليّة والفاعلة، بمعنى القطع التام والجزم الكامل، على منع (سي) يوسف الشاهد من الترشّح للانتخابات الرئاسيّة، فقط وحصرًا، هو سعي لاستقطاب الأضواء وتوجيه رسائل (أو هي رسالة) بأنّ النهضة، ليست فقط «رقمًا صعبًا»، بل هي «الملح»، في الآن ذاته في عيون الأعداء (يوسف الشاهد نموذجًا وعند الضرورة) وأيضًا (وهذه فلسفة الغنوشي) لا تستقيم أيّ «طبخة سياسيّة» بدونها.
لا أحد في تونس مهما كانت درجة ذكائه ومستوى ادراكه يصدّق، وإن كان من باب المجاملة، أن الباجي قائد السبسي، يستطيع بخطاب شعبوي، وقرار شفاهي، أن يحدث أدنى تغيير سريع وفعلي وفاعل، بل جازم في «مجلّة الأحوال الشخصيّة»، بل هي «حرب الاسترداد» لمن ضاع من ناخبين، ومن خاب ظنّهم فيه وتتشتّت أصواتهم (أو كادت) بين الأحزاب السياسيّة.
في الحالات الثلاث، نحن نقف أمام «تعلّة» غير قابلة للإنجاز، بل واهية أو هي ساذجة إن لم تكن «شديد السذاجة»، من قبل «الثلاثي» اتخذها «ركيزة كلام» (بالمفهوم السيكولوجي) بغية تحقيق أهداف أخرى، ممّا يعني أنّنا في الآن ذاته، أمام انعدام الثقة بين الفرقاء جميعهم (هؤلاء الثلاثة نموذجًا) وكذلك (وهذا الأخطر)، استغلال للمنصب السياسي، بغية تحقيق غايات فرديّة، لا علاقة لها مهما كانت لما يقولون أنّها مصلحة البلاد والعباد.
ضمن «خطاب المصلحة» الوطنيّة في الظاهر، والذاتيّة أو الحزبيّة في الباطن، أو هو الفارق بين «المقامين» (بالمفهوم الموسيقي) يمكن العثور على دلائل ماديّة وإشارات ملموسة، على درجات الخوف القائمة (أوّلا وقبل أيّ شيء) وأيضًا حدّة التسرّع (بدرجات كذلك) وإن كان راشد الغنوشي أشدّهم وثوقًا (على المستوى الشخصي) والأقرب إلى الهدوء.
يوسف الشاهد، يتقاطع مع النبيّ يوسف عليه السلام في نقطة واحدة يتيمة: كلاهما يتيم وكلاهما دخل معترك الحياة «السياسيّة» دون تجربة وقبل أن يشتدّ عوده ويستقيم بنيانه. عند هذا الحدّ ينتهي التشبيه. يوسف الشاهد، اليتيم دون حزب يرعاه، أشبه بمن عليه السير بعجلة (الحكومة) في مجال «محاربة الفساد» بحثا عن نصر يحققّه، يضمن من خلاله أقصى درجات الشعبيّة وفي الآن ذاته، عليه ادّخار هذه النجاحات وجعلها سلّما يصعد به فوق الجميع حين تدقّ ساعات الانتخابات الرئاسيّة.
الباجي قائد السبسي يعلم علمًا يقينًا أنّ له من «نداء تونس» شقًا من شقوقه، لكنّ هذا الشقّ، ومهما حاول نجله حافظ النفخ فيه بما أوتي من قوّة وإعلام ومال، عاجز العجز ذاته عن العود إلى «زمن المجد»، حين حقّق الباجي انتصاره على المرزوقي وجاء نداء تونس «الحزب صاحب الأغلبيّة» في مجلس نوّاب الشعب. صار الباجي إلى أطلال يناجيها، بين أن يرثي حاله أو أن يستردّ مجده، كان عليه الخروج في صورة «حامي النساء» وكذلك «راعي الحداثة»…
راشد الغنوشي يدري علم اليقين بالحدس والشعور وبالحساب كما الرؤية بالعين، أنّ النهضة التي يقف على رأسها وهي تقف وراءه، تأتي أفضل الأحزاب تنظيمًا، ومن ثمّة في غياب صورة واضحة وموثوقة (غير عملية سبر الآراء مدفوعة الأجر)، لا أحد يدري مدى وزن الكيانات السياسيّة القائمة. خاصّة التي لم تشارك في الانتخابات الفارطة، وأيضًا تبيّن دون الحاجة إلى دليل، أنّ النداء ذهب شظايا، وأنّ «أفاق تونس» وكذلك «الحزب الوطني الحرّ» أقرب إلى «أحزاب ذات استعمال واحد». من ذلك عمد الرجل إلى توجيه «التنبيه» إلى الشاهد ومن خلاله إلى الجميع، أنّ مرور ساكن قرطاج القادم إلى كرسي الرئاسة، لن يكون على «جثّة» النهضة، حين يعلم أنّ الجميع سيغازله ساعة الجدّ، بمن فيهم ألدّ أعدائه راهنًا….
يوسف الشاهد في حربه على الارهاب، جاء في الآن ذاته انتقائيّا وانتقاميا، حين يعلم أنّ لا رجل أعمال واحد، على الأقل من الفئة الأولى، ينام مطمئن الضمير، راضيا على تصرّفاته، ودون الشعور بأيّ ذنب. هو يعلم أنّ فيروس «الفساد» بلغ درجة متقدّمة في هيكل الاقتصاد، وفي خياشيم حكومته، وبالتالي يمكنه أن يضرب «من يشاء» (تقريبًا) وهو يعلم بوجود «فساد ما» من باب اليقين. لذلك تأتي الحملة على (هذا الفساد) أشبه بماكينة (الحكومة) تحصد القمح، وماكينة (الشاهد الخاصة) تتوّلى خزن الأكياس في انتظار المقايضة والتصريف.
الباجي على مستوى هذه النقطة، لا يختلف (كثيرًا) عمّن سمّاه رئيس وزرائه، حين يكون على استعداد (في الآن ذاته) لتسويف لجنة بشرى بلحاج حميدة وجعلها تطحن ماء سدود تونس جميعها، طيلة مكوثه في قرطاج، كما يملك القدرة على جعلها «تبيض» الاقتراح تلوى الاقتراح، ليهجم بها على مجلس النوّاب الشعب، فتكون النهضة في حرج أمام «المرجعيات الغربيّة»، التي «أوصت/أمرت» بما هي «المساواة في الإرث» حين نعلم أنّ هذه الحركة «الإسلامّية» التي تريد أن تجعلنا نراها «مدنيّة» قد صرفت «دمّ فؤادها» كي تقنع هذه المرجعيات أنّها «قطعت» ودون رجعة مع «الإسلام السياسي» في شكله الحركي، و«تابت» توبة نصوحًا لا رجعة فيها ولا تراجع عنها…
ملخصّ الخرافات الثلاث:
استغلال الوجود، وأيضًا انعدام ثقة بينهم، دون أن اغفال ادّخار الصوت (الانتخابي) «الأبيض» لليوم (الانتخابي) «الأسود»، ودون أن ننسى (كذلك) أنّ الغنوشي (فقط وحصرًا) من يجلس على «خميرة» (في الحدّ الأدنى وأفضل من الاثنين الأخرين) يطمئن إليها وهي تستلذّ بطاعته….
ما تجاوز ذلك «فيلم هندي» في «سينما الحمراء» في ستينات القرن الماضي، حيث «المبالغة» دون حدود…